في افتتاح دورة مجلس الشعب في التاسع من نوفمبر عام1977، وقف الرئيس السادات مزهوا بعد مرور أحداث انتفاضة ١٨و١٩ يناير من نفس العام بسلام.. ورغم أنه اضطر لتقديم بعض التنازلات؛ إلا أنه بدا في حالة عارمة من النشوة. فقد أمطر الرئيس الحضور في كلمته بالجمل الرنانة والعبارات القوية التي تشي بحالة مزاجية يعرفها المقربون منه!.
فوجئ الحاضرون وكان من بينهم السيد ياسر عرفات بالرئيس يلقي بجملته الشهيرة: “ستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم”.
ربما فهم معظم الحضور العبارة وفق سياق الخطاب الذي كان مزيجا من المبالغات والتهويل؛ فلم يأخذها الكثيرون على محمل الجد؛ لكن الجميع انخرطوا بفعل نوبة الحماس الساداتية في تصفيق حاد.
كانت المبادئ التي تحدد طبيعة الصراع العربي/ الصهيوني ما زالت راسخة؛ لذلك كانت صدمة الكثيرين مروِّعة عندما نقلت الشاشات في العشرين من نوفمبر من نفس العام؛ خطاب السادات الذي ألقاه من داخل الكنيست وأعلن فيه أنه يستهدف السلام الشامل.. وأعقب مبادرته بدعوة رئيس وزراء العدو “بيجن” إلى مؤتمر قمة في مدينة الإسماعيلية.. ورغم كل هذا السخاء الحاتمي الذي أغدقه السادات على أصدقائه .. إلا أن حديث “بيجن” لم يخرج عن حق دويلته في الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها، وعما تعرض له الصهاينة من عدوان-مزعوم- مستمر من جانب مصر.
اندفع الرئيس السادات بكل ما أوتي من حماس في هذا الطريق الذي اختاره وفق مبررات بدت براقة للبعض.. كان الكيان الصهيوني يمارس أفعالا استفزازية موقنا أن الجانب المصري يتمتع برحابة صدر كافية.. لدرجة أنه بينما كان وزراء خارجية مصر والولايات المتحدة ودويلة الكيان مجتمعين في مدينة القدس الشريف؛ ظل الصهاينة مستمرين في بناء مستوطنات جديدة في سيناء، وكأنهم لا يأخذون ما يجري مأخذ الجد.. حتى كان تصريح “ديان” الذي أعلن فيه عن رغبته في فشل المبادرة التي ستفقد الكيان مقومات أمنه.. كان التصريح لزيادة حجم المكاسب الهائلة التي جناها الطرف الصهيوني ليس إلا.
ورغم كل ذلك استمرت المحادثات التي كان معظمها يجري خارج الأعراف الدبلوماسية.. حتى أن وزير الخارجية المصري السيد محمد إبراهيم كامل قدم استقالته اعتراضا على الطريقة التي أدار بها السادات المفاوضات وقال تحديدا” إن كل ما قبل به السادات كان أبعد ما يكون عن السلام العادل” ثم وصف “كامل” العملية برمتها بأنها “مذبحة تنازلات”. كانت هذه الاستقالة هي الاستقالة الثالثة في الخارجية المصرية بعد استقالة السيد إسماعيل فهمي وزير الخارجية، والسيد محمود رياض وزير الدولة للشئون الخارجية اعتراضا على المبادرة.
“بدأت قواتنا عملية محدودة على الحدود اللبنانية لإزالة قواعد الإرهابيين في المنطقة، وأرجو ألا تعطل هذه العملية المحدودة المحادثات بين بلدينا” كان هذا هو نص الرسالة التي أرسلها “بيجن” إلى السادات في الثالث عشر من مارس 1978؛هذه العملية التي وصفها مجرم الحرب بالمحدودة نَجَمَ عنها، قتل وتشريد قرابة ربع مليون إنسان.. لكنها لم تعكر صفو العلاقة الودية بين الرجلين!.
وعقب انتهاء ما سُمِّي بمحادثات كامب ديفيد وقَّع الجانبان على المعاهدة التي تضمنت عدة محاور رئيسة هي: إنهاء حالة الحرب وإقامة علاقات ودية بين مصر والكيان الصهيوني، وانسحاب الصهاينة من سيناء المحتلة عام 1967، كما تضمنت الاتفاقية ضمان عبور سفن العدو من قناة السويس واعتبار مضيق “تيران” وخليج العقبة ممرات مائية دولية.. أشارت الاتفاقية أيضا إلى ضرورة البدء في مفاوضات لإنشاء منطقة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة والتطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242.
يخلط كثيرون بين اتفاقيات كامب ديفيد والمعاهدة.. ويبدو أن ذلك حدث نتيجة حالة لبس متعمدة؛ لأن اتفاقيتي كامب ديفيد قد جرتا في العام 1978، بينما كانت المعاهدة في 26من مارس عام1979، وكانت الاتفاقية الأولى قد حملت عنوان “إطار السلام في الشرق الأوسط” بينما حملت الثانية عنوانا آخر هو “إطار الاتفاق لمعاهدة السلام بين البلدين”.
تصاعدت الاحتجاجات في الوطن العربي على انفراد مصر باتفاقية صلحٍ تعترف فيها بشرعية دولة قامت على اغتصاب أرض فلسطين.. وأدان مؤتمر القمة في بغداد الاتفاقية، وهدد بقطع العلاقات مع القاهرة، ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس. كما أكد قرار القمة العاشر في تونس قرار بغداد بمقاطعة مصر في شهر نوفمبر. ووصف السادات قرار قطع العلاقات مع مصر بأنه “كان تطاولا وقحا منهم- يقصد الدول العربية- فاندفعوا في موكب واحد”. وأضاف أن “عشرات المليارات “نازله” علينا وبحمد الله من غير الأمة العربية.. مضت السنين العجاف، لأننا عرفنا طريق السلام. مضت كل المعاناة”.
لقد وعد الرئيس السادات الشعب المصري بأنهار اللبن والعسل التي سيغترفون منها بعد توقيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني.. لكننا نرى اليوم ثمار المعاهدة تتجلى في أزمات متلاحقة ليس آخرها أزمة سد النهضة، التي لا يستطيع أحد إنكار الدور الصهيوني الخبيث فيها.
كان الهدف هو إخراج مصر من معادلة الصراع العربي الصهيوني، وهو الأمر الذي عُرض صراحة على الرئيس عبد الناصر؛ مقابل عودة سيناء إلى مصر بلا حرب.. لكن رفض عبد الناصر لهذا الشرط كان قاطعا؛ لأسباب كثيرة، منها أن أمن مصر لا يمكن أن يكون على حساب انتمائها العربي، ناهيك عن وضوح الهدف من وراء هذا الشرط المجحف.
لقد ظلت مصر منذ قيام ثورة يوليو الركيزة الأساسية في قوة العرب، ولم يكن عرض إعادة سيناء دون قتال؛ إلا لتمكين الكيان الصهيوني من الانفراد بدول الطوق كل على حدا، وتصفية المقاومة الفلسطينية.. مع استمراره في شن الحرب على مصر بطرق أخرى طالت كل المجالات وفي القلب منها الزراعة المصرية التي تم تدميرها تحت مسمى تبادل الخبرات بين الجانبين.. وكان على رأس القائمة التي تطول زراعة القطن المصري التي صارت في ذمة التاريخ.. هذا غير المبيدات المسرطنة في عهد مبارك، وما حدث بشأن استيراد شتلات لبعض الفواكه معدلة وراثيا من الكيان الصهيوني أدت إلى ازدياد معدلات الإصابة بالأورام السرطانية.. وغير ذلك مما يجل عن الحصر من الممارسات العدائية تجاه مصر وشعبها.
لقد أتاحت تلك المعاهدة الفرصة للكيان الصهيوني لوضع خطط تخريبية طالت المنطقة بأسرها كما أكد ذلك عدد من الخبراء.. ما اعتبره البعض استراتيجية للصهيونية العالمية في فترة ما بعد المعاهدة.. والتي تضمنت العمل على تفتيت الوطن العربي على أسس دينية.. وعرقية.. ومذهبية باعتبار ذلك التفتيت هو الضمان الوحيد لأمن الكيان.
لقد حققت المعاهدة للكيان الصهيوني كل ما كان يرجوه وأكثر.. فتوالت اعتداءاته على الدول العربية، وزاد في تنكيله بالشعب الفلسطيني.. واستمرت عملية تهويد القدس والمقدسات الإسلامية في جميع أرجاء فلسطين، ولم تجن مصر من هذه المعاهدة سوى الاكتواء بنار الإرهاب والعزلة عن محيطها العربي التي استمرت لعشر سنوات.. وما زالت تداعيات “كامب ديفيد” تتوالى؛ وما زالت بركاتها تحل على العرب؛ ليحيق الدمار الشامل بعدد من الدول العربية؛ لتخرج فعليا من أوسع أبواب التاريخ إلى غياهب الخراب والنسيان.