كيف مر بنا مقطع فتاة الثانوية العامة التي كانت تصرخ في لوعة، وهي شبه منهارة والدموع تغطي وجهها قائلة: “نقعد في بيوتنا أحسن ما يودونا كلية كحيانة زي آداب أو حقوق أو تجارة”؟!. بالتأكيد لم ينتبه أغلبنا لما عبّرت عنه تلك الفتاة من ازدراء شديد لكليات طالما أخرجت لنا عظماء ورواد ومبدعين وزعماء بارزين.. لم تعبر هذه الفتاة عن دخيلة نفسها فحسب بل عبرت عن نظرة قطاع ليس بالقليل من المجتمع لتلك المحافل العلمية التي لم يعد اكتساب علومها من الأسباب الميسرة لـ “أكل العيش” المقصود طبعا هنا الوظائف ذات الرواتب الجيدة.. ربما كانت نظرة المجتمع تلك عملية وأكثر برجماتية من غيرها.. لكنها في الحقيقة تنطوي على جهل شديد؛ لأنها -ببساطة شديدة- تنزع عن المجتمع أهم دروعه لتتركه حاسرا أمام الإرهاب الذي إذا ضرب أوجع.. وفي هذه الحالة تتعطل قوى المجتمع الحية في سبيل مواجهة خطره، بل تصبح تلك المواجهة في أحيان كثيرة مبررا لكل إهدار وتأخر ولكل ممارسة لا تنضبط بضوابط القانون ولا تدفع نحو التقدم.
إنَّ العلوم الإنسانية وعلى رأسها الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرها لا يتضاءل الاهتمام بها في مجتمع إلا وكان مردود ذلك وخيم.. ذلك لأن انحسارها لا يعد خصما فادحا فحسب بل هو إفساح شنيع يعلن لجيوش الظلام أن تلك فرصتكم فاغتنموها.
الإرهاب والحاجة إلى تعريف
لقد أفسح أعداء الفلسفة من كل توجه المجال واسعا للإرهاب؛ فانتشر وتمدد في العقول ونما في الظلام؛ حتى طالت أصابعه أربعة أركان الأرض، وولغت أياديه في دماء ملايين الأبرياء.. ولم يكن هذا ليفجأ أحدا ممن خبر أن انحسار النسبي لابد أن يعقبه تسيد المطلق بما يفرضه من رؤى أحادية، ونبذ للآخر وإقصاء له.. وصولا إلى استحلاله وضرورة التخلص منه.. تستوي في ذلك الأفكار المؤسسية المستحدثة مع تلك المعتمدة على بعض النصوص التراثية.. فالإرهاب وإن عدمنا تعريفا جامعا له، وإن سلمنا بأن عدم حصولنا على ذلك التعريف إلى الآن سببه الإحجام عن رسم مفهوم ذي إطار واضح من أجل مرونة تسمح بوصم الأفراد والجماعات والدول به في حال إذا ما جنحت عن النظام الكوني المقنن بالاستغلال، والمؤسس على المصالح العليا للدول العظمى؛ إلا أنه يظل التجلي الأبرز لشيطنة الفلسفة وقمعها.
لا يوجد لدينا فئة من الناس يعلنون انتسابهم إلى الإرهاب صراحة؛ فيمثلون بذلك مرجعا لمن أراد تحديدا للدوافع والأسباب ومجالا للفعل وحكما على المآلات.. ويعتبر ذلك من معوقات التعريف الجامع للإرهاب.. لنصير إلى حالة مزرية، يقتصر فيها الإرهاب على كونه تهمة تُلقى على الآخرين وفق توصيف للأفعال بأنها تستهدف الأمن، تخرج عن الشرعية، تهدد السلام العالمي، تؤسس لممارسات من شأنها تعكير الصفو العام.. يبلغ الأمر حدا من السخف لا نظير له عندما يتعلق بالنوايا والهم بالإعداد والترتيب والتنسيق لأعمال تدخل في إطار ما سبق وصفه، ونصير إلى مهزلة لا تصدق عندما توصف أعمال المقاومة للاحتلال العسكري بأنها إرهاب.
دور الفلسفة في مفهمة الإرهاب وصياغة تعريف له
إن من شأن الفلسفة أن تتصدى لإشكالية تعريف الإرهاب بل إنها المعنية دون غيرها بذلك، لكن الأمر ليس بهذه السهولة كما يشير “الصحبي بوقرة” إذ أن “التعريف لا يكون إشكاليّا إلا لحظة نوجّهه نحو الوجهة التّي نريد لا على أساس حدّ المفهوم ورسمه، الأمر الذي يعني -إذا أردنا ذلك-إ مكانيّة عقلنة هذه الظاهرة أو تفكيك عناصر تواجدها في المجتمعات البشرية. والعقلنة لا تكون إلا على أساس فهم دقيق وصريح للظّاهرة، كما لا يكون التفكيك دون تحديد دقيق وجريء للمفهوم خارج كلّ سياق وقبله. فالمفاهيم التّي تحتاج سياقا هي تلك التّي أساسها معقوليّة ما تبرّرها وتستمدّ بفضلها وجاهتها، أمّا الإرهاب بما هو فعل اللامعنى واللاعقل فهو خارج منطق المعقوليّة والوجاهة، وإن كان له شيء من العقل والوجاهة فإنّه يستمدّه من العدم حيث اللاشيء، وحيث اللاسياق”.
وإذا كان الإرهاب هو الفعل المتعمد للإفزاع والإرعاب وتبديد حالة الأمن، وإثارة المخاوف التي ترغم البشر على تغيير أنماط من السلوك، أو القبول بما هو غير مألوف وإدخاله في حيز الاعتياد؛ إلا أن أخطر ما ينجم عن ذلك هو ارتضاء الخوف المنتظم أتقاء للخوف المباغت، وهذا ما تسعى بعض الأنظمة إلى ترسيخه لدى الشعوب؛ لتصير الحقيقة جلية وكاشفة ودالة على أن تلك الدائرة الجهنمية لا انفصام فيها بين إرهاب المؤسسات وإرهاب الأفراد والجماعات، لا بحسبان أنها ذات صلة وثيقة من حيث النشأة والتدريب بأجهزة استخبارات كبرى الدول؛ بل بوصفها استدعاء دائما للبطش وامتهان القانون وحقوق الإنسان، في حدود تبدو مقبولة لدى الكثيرين.
الإرهاب بضاعة عولمية
يؤيد د. زهير الخويلدي هذا التفسير دون مواربة عندما يوضح أن “الإرهاب صناعة العولمة المتوحشة وأداة تستعملها الدول المهيمنة للاعتداء على الثقافات وتدنيس المقدسات ونهب خيرات الدول الفقيرة” وأنه لا سبيل لدينا إلا سرعة” التخلص من شروط الاغتراب والعمل على تشريح التخلف والتدميرية والاعتصام بفلسفة المقاومة التي تنشر الأنسنة الثقافية ومبدأ الأمل”.
لذلك لا يجب التمادي في رمي التراث بفرية أن نصوصه هي السبب الأول في انتشار ظاهرة الإرهاب في المجتمعات العربية والإسلامية، لأن الإشكالية الحقيقية تكمن في طريقة تعاطينا مع هذا التراث، بل إن القطيعة مع التراث التي تبنتها بعض النخب الثقافية العربية أسهمت بما لا يدع مجالا للشك في توسيع الفجوة بين الأجيال التي استهدفت بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية وأي محاولة لنفي الاتهام عن الغرب، كونه ضالعا أو مؤسسا لهذه التأزمات أو داعما للأنظمة المتسببة فيها.
تراجع الفلسفة والاستثمار في أزمة الهوية
إن الفحص الفلسفي للظاهرة سيكشف عن أزمة تتعلق بالهوية التي انكمشت وانزوت وصارت إلى عداء كل مختلف بوصفه آخر وجب نبذه أو التخلص منه، بدوافع دينية أو دنيوية.. تلك الحالة من الانغلاق التي تبدو سطحية جدا تنبئ عن تعقيد كبير، ورفض وتبرم يظهر في سلوكيات قطاع كبير من الشعوب العربية، وخطورة ذلك أن كثيرين من هذا القطاع العريض هم بالفعل إرهابيون تحت الطلب، ففي حال تتهاوى منظومة القيم الداعمة للحق والخير والعدل، تتغول قوى الاستبداد والاستغلال موجدة المبرر لدى البعض لفعل الشناعات، بوصفها فعل مقاومة وتمرد على هذا الفحش والتوحش الذي تمارسه قوى الهيمنة، وذيولها من الأنظمة التابعة.
الفلسفة تحاصر التمييز وتجفف منابع الإرهاب
إن الدور الأهم للفلسفة هو تقليص المساحة الملائمة لانتشار الإرهاب التي تصنعها ثقافة التفاهة، وتراجع التعليم، والإعلام المضلل تلك التي يشير إليها “دولوز” بالفظاعة الثالثة ويصفها “فوكو” بأنها فظاعة نذرة، فظاعة أناس تافهين، حقيرين وبسطاء، لا يفرضون وجودهم لحظة ما ولا تسلط عليهم الأضواء إلا من خلال الشكاوي التي تقدم فيهم، والتهم التي تلقى عليهم.. وإذا كانت مجتمعاتنا العربية تسير نحو ترسيخ كافة أشكال التمييز، فمعنى ذلك أن ملايين من البشر سيكونون عرضة للإقصاء والنبذ، إنهم مدعوون ليكونوا على هامش المجتمع، مستهدفون لأداء أحط الأدوار والقيام بأتفه الأعمال، بلا أفق وبلا مستقبل وبلا أي مؤهلات تسمح لهم بحياة شبه آدمية.. إن اليأس هو الاستثمار الأكبر للإرهاب وزرعه في النفوس أعظم خدمة تؤدَّى له.. يقول “إدريس شرود“: ” إن التهميش والإقصاء الذي تمارسه السلطة وأجهزتها، على أناس تافهين يبقى موشوما على أجسادهم؛ على أجسامهم وأفكارهم، ويؤدي بالفعل إلى إنتاج أناس بسطاء. لكن وجب التحذير: يكفي أن تضاف جرعة واحدة من الاضطهاد أو الحط من الكرامة، حتي يتحول هؤلاء البسطاء إلى كائنات مخيفة ورهيبة، مزودة هذه المرة، بإيديولوجية مدمرة”.
إذا كنا جادين في العمل على دحر الإرهاب علينا أولا أن نعمل على تجفيف منابعه، ولن يتأتى هذا إلا بإتاحة المجال للفلسفة لتقوم بدورها في استعادة ما سُلب من عقول، واحتوائها بطرح التساؤلات الواجبة حول سبل مواجهة الإرهاب بكافة أشكاله وأدواته وجماعاته ومؤسساته، وكشف التضليل الذي يمارس ليل نهار لتبريره، ليتخذ ذريعة للمزيد من النهب لثروات الشعوب ومقدراتها.. وإذا كنا مرغمين على استخدام بعض المصطلحات الشائعة.. فمن الواجب أن نقول أنه طالما وصفت الكليات التي تدرس العلوم الإنسانية وعلى رأسها الفلسفة.. بأنها “كحيانة” فإن تلك الحالة هي حالة المجتمع كله بكافة قطاعاته وفئاته.. حالة مرشحة بقوة للتفاقم والانهيار.. وساعتها لن ينفعنا الندم.