الأنباء تترامى عن قرب وصول القوات الألمانية إلى الموقع الذي تتمركز فيه قوات مصرية وبريطانية مشتركة، فتأتي الأوامر بضرورة الانسحاب السريع مما يستلزم ترك بعض العتاد العسكري وعدد من الآليات، ويتقرر الإبقاء على قوة محدودة للتخلص من هذا العتاد بطريقة تعيق تقدم القوات الألمانية.. كان لابد لهذه المهمة من ضابط عُرف عنه الجَلد والشجاعة والذكاء رغم حداثة سنه، ولم يكن هذا الضابط سوى سعد الدين الشاذلي الذي لم يكن قد تجاوز العشرين، غير أن تمتعه بروح القيادة، ومواهبه الحربية الفطرية وجسارته الهائلة كانت تؤهله –دائما- للمهام الجسام، وما إن تم تكليفه بالمهمة بدأ سعد الدين في وضع خطة التخلص من العتاد بطريقة تربك خطط التقدم الألماني، وتجبر الألمان على تعديل المسار، ولكم تمنى أن تواتيه الفرصة لاشتباك خفيف مع القوات الألمانية يتيح له إلحاق بعض الخسائر بها.
تمت المهمة على خير ليعود الضابط الشاب بعدها إلى القاهرة ليتسلم مهام عمله بالحرس الملكي بعد أن سبقته إلى هناك سمعته الطيبة.. حدث ذلك عام1943، كان الالتحاق بالحرس الملكي آنذاك مطمح كل ضابط في الجيش المصري.. وقد أمضى الشاذلي في قوات الحرس الملكي نحوا من خمس سنوات؛ لم يهمل فيها صقل قدراته وتنمية معارفه العسكرية والاستفادة من الإمكانات المتاحة في السلاح المتميز؛ ليكون على أعلى درجة من الكفاءة القتالية؛ إذ كان يؤمن أن المقاتل لابد أن يكون على أهبة الاستعداد –دائما- وأن الميل للدعة والاسترخاء هو تفريط يصل إلى درجة الخيانة.
تندلع الحرب في فلسطين الحبيبة ضد شراذم العصابات الصهيونية؛ فلا يتردد بطلنا لحظة في التقدم إلى قائد الحرس الملكي بطلب يلتمس فيه إنهاء ندبه؛ حتى يتمكن من اللحاق بالقوات المصرية المغادرة إلى فلسطين، ويظن القائد أن سعدا قد أصابه مس من جنون، فكيف له أن يترك ما يتمتع به ضباط الحرس الملكي من امتيازات هائلة؛ ليذهب للقتال في فلسطين؟! لم يستطع القائد تفهم دوافع الشاذلي الصادقة التي جعلته لا ينظر إلى تلك المغريات بعين الاعتبار، لأن روح المجاهد هي التي كانت تحركه صوب أسمى غاية؛ ألا وهي الدفاع عن فلسطين وطن كل عربي حر أبي.
وأمام إصرار الشاذلي يضطر قائد الحرس الملكي إلى رفع الأمر للملك الذي سيراها فرصة سانحة لإنقاذ شعبيته المتآكلة؛ فيأمر بتشكيل سرية من الحرس الملكي لتلحق بالقتال الدائر على أشده في فلسطين على أن يكون الالتحاق بها تطوعيا، وبالطبع كان سعد هو أول المتطوعين وتبعه عدد من زملائه، وتوجهت السرية إلى ميدان القتال وتمركزت في منطقة دير سنيد، وقاتلت السرية العصابات الصهيونية، وأبلى سعد في تلك المعارك أحسن البلاء.
في عام1951، ينضم سعد الدين الشاذلي إلى حركة الضباط الأحرار، وبعد قيام ثورة يوليو يوجه الشاذلي جهوده إلى استحداث بعض الأسلحة في القوات المسلحة؛ فيؤسس في العام 1954، أول فرقة للقفز بالمظلات بالجيش المصري ويتولى هو قيادتها لمدة خمس سنوات.
ويتولى سعد الدين قيادة أول قوات عربية موحدة تذهب في مهمة تأمين كجزء من قوات الأمم المتحدة إلى الكونغو مطلع الستينات.. ويبقى هناك لنحو عام، ثم ينتقل إلى لندن ليتولى منصب الملحق العسكري بالسفارة المصرية حتى عام 1963، ليعود قائدا لأحد ألوية المشاة المدرعة، ثم قائدا لإحدى وحدات القوات الخاصة.
في الخامس من يونيو 1967، كانت وحدة الشاذلي مكلفة بمهام حراسة في وسط سيناء، ومع تواتر أنباء الهزيمة وانقطاع الاتصال بالقيادة يقرر الشاذلي أن يتجه بقواته شرقا ليعبر الحدود الفلسطينية، ويتمركز داخلها بعمق خمسة كيلومترات، وكان ذلك قبل غروب شمس الخامس من يونيو، وبقيت الوحدة هناك لمدة يومين إلى أن نجح الاتصال بالقيادة التي أصدرت أوامرها بضرورة الانسحاب الفوري، وبدأ التحرك قبيل غروب يوم الثامن من يونيو في ظل ظروف تصعب فيها النجاة وربما تستحيل، فلقد كان التحرك بعرض سيناء التي كانت يد العدو قد أحكمت السيطرة عليها، دون غطاء جوي وقد أوشكت المؤن على النفاد، واستطاع الشاذلي بمهارة فائقة أن يقطع أرض سيناء من أقصى الشرق إلى الشاطئ الغربي للقناة -حوالي مئتي كيلومتر- ويعود بالقوات والمعدات، وقدرت نسبة الخسائر ما بين 10% و20% فيما يشبه المعجزة في تلك الظروف. ويقع الاختيار على الشاذلي ليتولى قيادة القوات الخاصة(الصاعقة والمظلات) في الفترة ما بين عامي 67 و69 ثم قائدا لمنطقة البحر الأحمر حتى عام 1971.
في16 مايو 1971، وبعد يوم واحد من إطاحة السادات بأقطاب النظام الناصري، فيما أسماه بـثورة التصحيح؛ عُين الشاذلي رئيسا للأركان، باعتبار أنه لم يكن يدين بالولاء إلا لشرف الجندية، فلم يكن محسوبا على أي من المتصارعين على الساحة السياسية المصرية آنذاك، وقد تخطى الشاذلي نحو أربعين لواء بحسب نظام الأقدمية وصولا إلى المنصب الرفيع.
دخل الفريق الشاذلي في خلافات مع الفريق محمد أحمد صادق وزير الحربية آنذاك حول خطة العمليات الخاصة بتحرير سيناء، حيث كان الفريق صادق يرى أن الجيش المصري يتعين عليه ألا يقوم بأي عملية هجومية إلا إذا وصل إلى مرحلة تفوّق على العدو في المعدات والكفاءة القتالية، عندها فقط يمكنه القيام بعملية كاسحة يحرر بها سيناء كلها، في حين وجد الفريق الشاذلي أن هذا الكلام لا يتماشى مع الإمكانيات الفعلية للجيش، ولذلك طالب أن يقوم بعملية هجومية في حدود إمكانياته، تقضي باسترداد من 10: 12 كيلومتر في عمق سيناء.
بنى الفريق الشاذلي رأيه ذلك على أساس أن الاستراتيجية الحربية يجب أن تُفصّل وفق الإمكانيات المتاحة، وطبقا لقدرات العدو.
سأل الشاذلي الفريق صادق: هل لديك القوات التي تستطيع أن تنفذ بها خطتك؟. أجاب صادق: لا.
فقال له الشاذلي: على أي أساس إذن نضع خطة، وليست لدينا الإمكانيات اللازمة لتنفيذها؟.
أقال السادات الفريق صادق وأمر بتعيين المشير أحمد إسماعيل بدلا منه.
يقول الشاذلي عن الخطة التي وضعها للهجوم على إسرائيل واقتحام قناة السويس التي أسماها “المآذن العالية” إنَّ ضعف الدفاع الجوي يمنعنا من أن نقوم بعملية هجومية كبيرة، ولكن من قال إننا نريد أن نقوم بعملية هجومية كبيرة، إنَّ باستطاعتنا أن نقوم بعملية محدودة، بحيث نعبر القناة وندمر خط بارليف ونحتل من 10 : 12 كيلومترا شرق القناة”. ومن خلال ما يمكن تحقيقه على الأرض وفق هذه الخطة سيتمكن المصريون من تحقيق النصر النهائي وتحرير سيناء، وذلك بالاستفادة القصوى من كون الصهاينة لا يتحملون الخسائر البشرية الكبيرة، كما أنهم لا طاقة لهم بحرب طويلة، لأنَّ الحياة لديهم تتوقف تماما لوجود كل القادرين على حمل السلاح على جبهة القتال.
في يوم السادس من أكتوبر عام1973، وفي تمام الثانية ظهرا يشن الجيشان المصري والسوري هجوما شاملا على الكيان الصهيوني بطول الجبهتين، ويقوم الجيش المصري بتنفيذ الخطة التي وضعها الفريق الشاذلي بنجاح غير متوقع، حتى أنَّ القيادة المصرية لم تصدر أي أمر للوحدات الفرعية خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى من القتال؛ إذ كانت قواتنا تؤدي مهامها بمنتهى الكفاءة والسهولة واليسر كأنها تؤدي طابور تدريب تكتيكي حسب تعبير الفريق الشاذلي في مذكراته.
على الرغم من تحقق نصر عسكري غير مسبوق إلا أن القيادة السياسة وقعت-بعد ذلك- في عدة أخطاء متتالية أدت إلى اصطدام الفريق الشاذلي معها، بدأ الصدام بإصرار السادات على عملية تطوير الهجوم التي فشلت فشلا ذريعا، وأدت إلى خسائر كبيرة في الجنود والمعدات.. كان ذلك في اليوم التاسع للقتال.. ثم تعاظم الخلاف حتى حدثت ثغرة الدفرسوار؛ لتمتنع القيادة السياسية دون مبرر عن الاستجابة لخطة الشاذلي التي كانت ستقضي على قوات الصهاينة التي تسللت إلى غرب القناة؛ لينتهي الأمر إلى إبعاد الشاذلي عن القوات المسلحة في 13ديسمبر 1973.
عُيِّنَ الفريق الشاذلي بعد هذا الإبعاد سفيرا لمصر في لندن، ثم في لشبونة وبعد توقيع كامب ديفيد ترك الشاذلي المنصب، وعاش في الجزائر كلاجئ سياسي، وكتب مذكراته ونشرها؛ ما جعل القيادة السياسية في مصر تستصدر بشأنه حكما غيابيا بالسجن لثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة بحجة أنه أفشى أسرارا عسكرية، وعند عودته إلى مصر عام 1992، ألقى القبض عليه في المطار، وأودع السجن دون إعادة المحاكمة بالمخالفة الصريحة للقانون، وبقي الشاذلي في السجن حوالي 19 شهرا وخرج مرفوع الرأس. في يوم الحادي عشر من فبراير 2011 وبينما كانت مصر تموج بالمخاض الثوري، ودع المصريون أحد أعظم القادة العسكريين في تاريخ مصر بعد حياة حافلة بالبطولات والتحديات.