عند وافت المنية الأمير “نجم الدين إيلغازي بن أرتق” الذي نجح في توحيد كل من إمارته ماردين وحلب التي استغاث به أهلها لنجدتها من هجمات الصليبيين؛ بدأت الجبهة الموحدة التي شكلها بين المدينتين تتفكك تدريجيا.
حيث قُسمت إمارته بين ولديه “شمس الدين سليمان” الذي سيطر على “ميافارقين” وولده الثاني “حسام الدين تمرتاش” الذي سيطر على إمارة “مَارِدِين”.
لكن أنظار الحلبيين تجاوزت هذين الأميرين اللذين لم يروا فيهما عزم ولا جهاد أبيهما– واتجهت نحو وريث آخر رأوا فيه شبها كبير من “إيلغازي” وهو ابن أخيه “بلك بن بهرام بن أُرْتُق” الذي كان يحكم إمارة “خَرْتَبِرْت”.
ولعل ما رجَّح كفة “بلك” عند أهل حلب هو إنجازه الذي حققه قبل وفاة عمه مباشرة، حين هاجم بقواته إمارة “الرها” الصليبية القريبة من إمارته في عام ١١٢٢ ميلادية.
فرض “بلك” حصارا على “الرها” ورغم أنه لم يتمكن من السيطرة على تلك الإمارة بسبب تحصيناتها إلا أن القدر ساق إليه نصرا مؤزرا حين قرر الانسحاب بقواته؛ حيث حاول أمير “الرها” الصليبي “جوسلين دي كورتناي” أن يهاجم قوات “بلك” عند تراجعها عن أسوار إمارته وأدى هذا الى وقوع معركه بين الطرفين كان النصر فيها حليف المسلمين بقيادة “بلك” بل وظفر المسلمون “بجوسلين” أسيرا.
ومن موقع الظفر؛ طَالبَ “بلك” أسيره بأن يفتدي نفسه بتسليم إمارة “الرها” وهو ما رفضه “جوسلين” وعرض أن يفتدي نفسه بمبلغ كبير من المال؛ فلم يقبل منه “بلك” ذلك وحمله إلى قلعة قريبة فحبسه فيها.
كان لأسر “جوسلين” صدى كبير في أوساط المسلمين والصليبيين على حد سواء، إذ كانت أول مرةٍ يقع فيها أمير أو حاكم صليبي أسيرا في يد أعدائه منذ الحملة الصليبية الأولى عام ١٠٩٩ ميلاديه، ناهيك أن أسر “جوسلين” على يد “بلك” جاء بعد نجاح “إيلغازي” في قتل أمير أنطاكية “روجر” في معركة سرمدا عام ١١١٩، مما حرم إمارتين صليبيتين من حاكميهما؛ وأثار حالة من القلق في مملكة بيت المقدس الصليبية في مقابل مشاعر من الفرح والابتهاج في أوساط اهل الشام.
وسرعان ما أتبع “بلك” إنجازه هذا بإنجاز أكبر وأشد تأثيرا؛ ففي عام 1123 ميلادية توجَّه ملك القدس الصليبي “بلدوين” الثاني لملاقاة “بلك” في موقع يدعى “آورش” ولكن ما لم يتوقعه “بلدوين” الثاني هو أن يجد جنود “بلك” يحاصرون مخيمه، وكما حدث مع جوسلين من قبل؛ وقع “بلدوين” الثاني أسيرا في يد قوات “بلك”.
صار “بلك” بعد هذين الإنجازين بطلا في نظر الجميع، وخاصة أهل حلب الذين كرروا ما فعلوه مع عمه “إيلغازي” من قبل حيث استقبلوه في مدينتهم صيف عام ١١٢٣، ودانت المدينة له، ولم يضع “بلك” أي وقت، بل انشغل منذ اللحظة الأولى التي تولى فيها حكم حلب في استعادة ما نهبه الصليبيون من أراضٍ ونواحٍ تابعة لها.
وبطبيعة الحال رأت المدن التي تواجه عدوانا مستمرا من الصليبيين في “بلك” منقذا لها، وفي مقدمة هذه المدن مدينة “صور” على الساحل اللبناني التي كان الصليبيون يحاصرونها من البحر مطلع عام ١١٢٤ ميلاديه.
ولما عجز الفاطميون التي كانت صور قسما من مملكتهم عن تقديم أي شيء يذكر لنجدة مدينتهم فقد لجأ أهل “صور” المحاصرون إلى “بلك” طالبين منه الغوث.
وبالفعل سارع “بلك” لتلبية نداء أهل صور، ووصل إلى مشارف المدينة في صيف ذلك العام؛ إلا أنه في طريقه الى المدينة أصيب بسهم غادر اخترق ترقوته وسقط على إثر ذلك شهيدا.
أنهى استشهاد الأمير الذي كان في العقد الخامس من عمره حين ذاك صفحة ومسيرة جهادية مبهرة استطاع خلالها أن يعوِّض الأمَّة عن فقد عمه “إيلغازي” وأن يُكمل مسيرته، وأن يمهد الأرض لجيل قادم من المحررين.