فن

شوقي وبيرم إعجاب شعري متبادل وتنافس علي صوت “ثومة”. (1-2)

سجال شعري بين العملاقين, معركة الحرف بين شوقي وبيرم من منهما ينتصر, «أمير الزجل» أم أميــر شعراء الفصحى, بيرم يقول لشوقي أنا أميرك لو دخلت شعر العامية, ما الفرق بين الفصيح والبليغ؟ بين بيرم وشوقي في العمر ثلاثون عاما, عالج شوقي أغراضا كثيرة بالشعر؛ كالمدح والوصف والشعر السياسي والغزل والرثاء، والكوميدي الخفيف مثل قوله عندما أنجب ولده عليا:

سار شوقي أبا علي**** في الزمان “الترللي”.

 وقال شعرا ساخرا على لسان صديقه الدكتور محجوب.. كما تحدث شعرا عن البراغيث الكثيرة التي آلمته في عيادة الدكتور محجوب:

براغيث محجوب لم أنسها****ولم أنس ما طعمت من دمِي

تشق خراطيمهـــا جوربي****وتنفذ في اللحم والأعظــــــــــــمِ.

ويبدو من ساحة المعركة أن البيرم لم يترك ساحة العامية، ولم يكتب بالفصحي بعكس شوقي الذي رأى أن “سميعة الشعر بتوع بيرم” عندهم سر خطير، فقد نزل شوقي  من برج الملوك والأمراء، لعالم المواويل بعد أن وصل بيرم للموسيقار عبد الوهاب الفتي الذي رباه شوقي.

الأميران والكوكب والغناء والحب

من المستحيل كسب سباق العامية مع بيرم, ورغم ذلك حاول شوقي خوض غمار الشعر العامي أو الزجل بتأليف قصائد عامية غناها صديقه الأثير الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب مثل “في الليل لما خلي” و”النيل نجاشي”.. ولكن بيرم التونسي شاعر العامية الراحل الكبير لم تعجبه قصائد شوقي العامية، وعندما سأله شوقي عن رأيه في العاميات التي كتبها، رد عليه بيرم ببيت واحد من الشعر العامي قائلا:

يا أمير الشعر غيرك**** في الزجل يبقى أميرك.

والشعر يعكس ظروف حياة الرجلين التي كانت مختلفة, فأحمد شوقي ولد بالقاهرة عام 1868 وكانت جدته لأمه كبيرة وصيفات قصر الخديوي اسماعيل، وربته وحرصت على تلقيه الدراسة في أهم المدارس, وأوفده الخديوي توفيق إلى فرنسا؛ لاستكمال دراسة الحقوق والتعرف على الحضارة والثقافة الفرنسية, وكانت عودته إلى مصر عام 1894م، وفي عام 1927، بويع أميرا للشعراء العرب من قبل لجنة ضمت شعراء مرموقين بينهم خليل مطران وحافظ ابراهيم.

أما بيرم التونسي فولد في حي فقير بالإسكندرية في 3 مارس 1893، وأدخله أبوه معهدا أزهريا وهو بعمر صغير، لكن وفاة ابيه اضطرته لترك التعليم والعمل في الدكان الذي تركه له. كون بيرم ثقافته من مطالعاته النهمة للكتب؛ خاصة القديم منها، وهو ما سهَّل دخوله إلى عالم الصحافة معززا بسلاطة لسانه وجرأته. وفي عام 1919، أصدر مجلة المسلة ثم مجلة الخازوق وكان نصيبه ملاحقة السلطات له بسبب مقالة ساخرة كتبها عن زوج فوقية ابنة الملك فؤاد.

ورغم فارق العمر إلا أن شوقي وبيرم تبادلا الإعجاب؛ ونتيجة لشهادة الأول للثاني أصبح البعض يعرف بيرم علــى أنـــــه «أمـــيــــر الــــزجـــــــل» أو «أميــر الشعــر الشعبي». وقد ارتبط الشاعران الكبيران بعلاقة صداقة وطيدة مع كوكب الشرق «أم كلثوم» التي غنت لبيرم ولشوقي, مدح شوقي أم كلثوم وأحب صوتها، وفي أواخر أيامه دعاها إلى منزله؛ فزارته مع والدها وشقيقها خالد وغنت فأطربته، وكان يستأذن من وقت لآخر خلال السهرة ويدخل حجرة مكتبه؛ فاستغربت ذلك ثم اكتشفت أنه كان يقوم ليدون أبياتا من الشعر, وفي احدى المرات زار شوقي أم كلثوم في منزلها وأهداها قصيدة «سلوا كؤوس الطلا» لكنها لم تغنها في حياته, قيل أن السبب في عدم غناء السيدة ام كلثوم لقصائد شوقي إلا بعد سنوات من رحيله؛ هو علاقته المميزة بغريمها اللدود في بداياتها الموسيقار محمد عبدالوهاب الذي كان على علاقة مميزة بأمير الشعراء, ومن اشهر قصائد شوقي التي غنتها أم كلثوم الى جانب «سلوا كؤوس الطلا»، «سلوا قلبي»، و«ولد الهوى».

أما بيرم فتعرفت عليه أم كلثوم عام 1941، بعدما قدمه لها صديقهما المشترك الشيخ زكريا أحمد. وقد تعاون الثلاثة في أعمال رائعة أشهرها «أنا في انتظارك»، «الأولة في الغرام»، «غنيلي شوي شوي»، «قوللي ولا تخبيش يا زين»، «الورد جميل», كما كتب بيرم للسيدة ثلاثة قصائد شهيرة أخرى لحنها رياض السنباطي وهي «شمس الاصيل»، «الحب كده» و«القلب يعشق كل جميل». كما كتب شوقي العديد من المسرحيات أشهرها: “مصرع كليوباترا” و”مجنون ليلى” بينما قدم بيرم للإذاعة المصرية أعمالا تاريخية مهمة منها «سيرة الظاهر بيبرس».

شوقي أمير الشعراء نعم؛ لكنه عند باب أم كلثوم يتمنَّي عليها أن تشرب كأس الطلا, وعلي مقياس كوكب الشرق يقع بيرم التونسي علي قمة شعراء مصر, وهو الوحيد الذي كانت تخاطبه بـ “أستاذي بيرم” وهو من كانت أم كلثوم تنتظر قريحة إبداعه الفني وهي من سعت له, وبيرم الوحيد الذي نجا من فخ عشق أم كلثوم، وربما حدث العكس مع شوقي!.

في يوم رحيل بيرم وموته بكت عليه أم كلثوم، كما لم تبك أحدا من قبل, بيرم الذي كان يتمني يوما ما أن يري أم كلثوم فقط رأي العين, مع ذلك لم يفكر ولو مرة واحدة أن يعرض عليها نص أو غنوة, قابل بيرم أم كلثوم بعدما طلبت من شيخ الملحنين الشيخ زكريا أحمد أن يعرِّفها به، وتم التعارف بين بيرم وأم كلثوم، واتفقت معه على مجموعة من الأغاني من تلحين زكريا أحمد، وبدأ بيرم في أول أعماله الغنائية مع أم كلثوم في أبريل عام 1941، بتأليف أغنية «أنا وأنت»، ثم أتبعها بأغنية أخرى، وهي أغنية «كل الأحبة» حتي وصل مجموع أغانيه لكوكب الشرق أربعين أغنية وقد بدأت رحلة الأعمال الفنية لأم كلثوم مع كلام بيرم وألحان زكريا أحمد فغنت أم كلثوم أيضا من كلام بيرم وألحان زكريا أحمد أغنية «إيه أسمى الحب»، وأغنية «الآهات» والتي ترددت أم كلثوم كثيراً في غنائها لولا إقناع الشيخ زكريا أحمد لها، وعلى الرغم من ذلك حققت الأغنية نجاحاً قويا جدا، حتى أنها ما إن انتهت من الغناء حتى تواصل التصفيق لأكثر من عشر دقائق، وكانت هذه أطول مدة تصفيق استحسن بها الجمهور أغنية من أغانيها طوال حياتها، وتوالت الأغاني التي قدمها بيرم لأم كلثوم نذكر منها  «حلم»  « أنا في انتظارك» و« الأولة في الغرام» و« حبيبي يسعد أوقاته» و« أهل الهوى» « شمس الأصيل» «الحب كده» و «القلب يعشق كل جميل» وهناك أغانٍ أخرى غنتها أم كلثوم لبيرم، وربما كانت أقل شهرة من الأغاني السابقة مثل «اكتب لي من غير تأخير» و«البدر أهو نور» و«أنا ليه أجاسر وأعاتبك»، و «في أوان الورد ابتدا حبي» و «يا قلبي ياما تميل بنظرة» و«حيرانه ليه يا دموعي» كما غنت له بعض الأناشيد الوطنية مثل أغنية «صوت السلام».

كانت أم كلثوم تستعد لتقديم وصلتها الثالثة، وقبيل رفع الستار في مسرح حديقة الأزبكية، مال نحوها محمد القصبجي هامسا: “مات بيرم” فبكت الست، لكنها تماسكت، وقررت أن تنعى الشاعر الكبير بغناء كلماته؛ فغيرت الأغنية المقررة “يا ظالمني” إلى “الحب كده”.

بعد مصالحة السيدة مع زكريا أحمد، عاد الملحن الكبير مرة أخرى بكلمات بيرم الخالدة “هو صحيح الهوى غلاب” وكان ختام ما غنت له، زجليته الصوفية الرقيقة، “القلب يعشق كل جميل” تلك الغنوة التي جعلت أم كلثوم تبحث عن بيرم ثلاثة أشهر فلما لم تجده اعتقدت أنه طرد لباريس وسألت وزير الداخلية عنه فقال أنه سافر لمكه وانتظرت حتي عاد ومعه تلك التحفة الخالدة “القلب يعشق كل جميل” بعد ذلك قررت كوكب الشرق غناء قصيدة شوقي “ولد الهدي” تلك القصيدة الرائعة لتحافظ على التوازن الكلثومي بين شوقي وبيرم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock