كانت أم كلثوم تعرف سر عبقرية بيرم الشاعر الذي كان من أكثر المجددين في الأساليب الزجلية، والأحرص على التنوع في التشطير والقوافي، ونجحت أم كلثوم في فهم طريقته الفذة الفريدة في “الأولة في الغرام” حيث يبدأ “الأولة والثانية والثالثة” على قافية، ثم يكرر الأبيات الثلاثة مضيفا لكل منها جملة جديدة تكمل المعنى، ثم يكرر الأبيات والقافية الثانية مضيفا ثلاث جمل بثلاث قوافٍ جديدة تُتمّم المعنى، لتأتي بنية النص كالآتي:
“الأولة في الغرام والحب شبكوني/ والتانية بالامتثال والحب أمروني/ والتالتة من غير معاد راحوا وفاتوني/ الأولة في الغرام والحب شبكوني بنظرة عين/ والتانية بالامتثال والحب أمروني وأجيبه منين/ والتالتة من غير معاد راحوا وفاتوني قلولوا لي فين/ الأولة في الغرام والحب شبكوني بنظرة عين قادت لهيبي/ والتانية بالامتثال والحب أمروني وأجيبه منين احتار طبيبي/ والتالتة من غير معاد راحوا وفاتوني قلولوا لي فين سافر حبيبي”.
انساب صوت الكوكب شجيا حزينا يصدح بكلمات أمير الزجل: “تشوفه يضحك وفي قلبه الأنين والنوح.. عايش بلا روح.. وحيد.. والحب هو الروح.. حبيب قلبي وقلبي معاه.. أحبه في رضاه وجفاه.. أورّيه الملام بالعين.. وقلبي على الرضا ناوي.. بيجرح قد ما يجرح.. ويعطف تاني ويداوي”
وفق موسوعة أعلام الموسيقى العربية، مثلت كلمات بيرم التونسي، نحو 12% من أعمال أم كلثوم، ليحل في المرتبة الثانية بعد أحمد رامي، الذي شكلت كلماته 46% من غناء سيدة الطرب. رامي يجنح إلى التعقيد؛ فيقول: “وازّاي أقولك كنا زمان والماضي كان في الغيب بكرة”، بينما يميل بيرم إلى الوصول من أقصر طريق؛ فيقول: “الأمل لولاه عليا كنت في حبك ضحية”. رامي يعاني من المحبوب، فتكون النتيجة: “صبحت أحب الحب من بعد عشق الحبيب”، وبيرم يمل من انتظار محبوبه فيقول: “يا ريتني عمري ما حبيت”, لكن هناك فلاش باك في قصة الثلاثي الكبير “ثومه وشوقي وبيرم”.
باريس السجن لبيرم والفسحة لشوقي
سافر بيرم لباريس منفيا سجينا بأمر الملك ليعمل في منجم؛ ويصاب بمرض السل, وهناك كان شعر المنفي بعنوان أرض الحبايب بعيدة؛ بينما سافر شوقي معززا مكرما إلى فرنسا على نفقة الخديوي توفيق، وقد حسمت تلك الرحلة الدراسية الأولى منطلقات شوقي الفكرية والإبداعية. ويُلاحظ خلال فترة الدراسة في فرنسا وبعد عودته إلى مصر أن شعر شوقي كان يتجه بالمديح للخديوي عباس، الذي كانت سلطته مهددة من قبل الإنجليز، ويرجع النقاد التزام أحمد شوقي بالمديح للأسرة الحاكمة إلى عدة أسباب منها أن الخديوي هو ولي نعمة أحمد شوقي، العجيب أن شوقي تعرض للنفي هو الآخر, علي يد المحتل الإنجليزي لإسبانيا عام 1915، وفي هذا النفي اهتم شوقي بالاطلاع على الآداب الأوروبية، وذاق مرارة الحرمان من جنة مصر، فأصبح يشارك بالشعر من خلال اهتمامه بالتحركات الشعبية الساعية للتحرير عن بعد، وما يبث في شعره من مشاعر الحزن على نفيه من مصر، ليكوث ذلك توجها آخر في شعر شوقي بعيدا عن المدح.
عاد شوقي إلى مصر سنة 1920م بعد أن انتصرت ثورة 1919، واستقلت مصر عن إنجلترا اسميا, في نفس الوقت كان بيرم في ثلج باريس يلهث وراء عدة فرنكات كي يبقي علي قيد الحياة؛ ويبدأ كتابة أروع الأشعار, فهو أبرز شعراء ثورة 1919، وكاتب الغنوة الشهيرة “يا بلح زغلول” احتفاء بسعد باشا, ويرد شوقي بنشر قصيدة “الحرية الحمراء” وبذكاء أمير الشعراء يسجل قصة نفيه في القصيدة فقد كان يعلم ملاحقة بيرم فنيا له:
يوم البطولة لو شهدت نهاره.. لنظمت للأجيال ما لم ينظم
غبنت حقيقته وفات جمالها… باع الخيال العبقري الملهم
لولا عوادي النفي أو عقبانه.. والنفي حال من عذاب جهنم
لجمعت ألوان الحوادث صورة… مثلت فيها صورة المستسلم
وحكيت فيها النيل كاظم غيظه… وحكيته متغيظا لم يكظم
دعت البلاد إلى الغمار فغامرت… وطنية بمثقف ومعلم
ثارت على الحامي العتيد وأقسمت…بسواه جل جلاله لا تحتمي
ثم ينفعل بيرم ابن الثورة المطرود من جنة بهية كما كان يطلق علي مصر؛ ويكتب للثورة ولسعد والثوار مرة أخري
اطْـلَـعْ نَـهَـارِ الْـجُـمْـعَـة فُوقِ الْمِنْبَرْ وَقُـولْ يَـعِيشْ سَعْدِ الرَّئِيسِ الْأَكْبَرْ
قُـولُـوا لِـعِـينِ الشَّمْسِ مَا تِحْمَاشِي إِلَّا رَئِــيـسِ الْـوَفْـدِ صَـابِـحْ مَـاشِـي
سِـمِـعْ طُـبُـولِ الْـحَـرْبِ مَاسْتَنَّاشِي وِقَـالْ وَكِـيـلِ الْـبِـنْـتِ لَازِمْ يِـحْضَرْ
وِقُـولْ لِـمُـوجِ الْـبَـحْرِ يَا مُوجْ هَدِّي وُاصْـبُـرْ كِـدَا لَـمَّـا الـسَّـفِـيـنَة تْعَدِّي
وِيَــا سَـحَـابَـة يَـاللِّـي فُـوقُـه مِـدِّي ظِـلِّـكْ عَـلَـى قَـدِّ الْـكَـبِـيـنْ وِالْـعَنْبَرْ
يَـا يُـومْ مُبَارَكْ يُومْ مَا شُفْتِ بْلَادَكْ وِالْأُمَّـــة حَـــوْلَــكْ كُــلَّــهَــا أَوْلَادَكْ
وِالْـغِـيظْ دَخَلْ قَطَّعْ قُلُوبْ حُسَّادَكْ لَــمَّــا عَــلَــى إِيــدَكْ بِــلَادْ تِـتْـحَـرَّرْ
الــزَّهْـرِ مِـنْ شُـوقُـه لِـرُؤْيَـاكْ فَـتَّـحْ وِالشَّمْسِ بِتْقُولْ لَكْ يَا سَعْدِ تْصَبَّحْ
ومن الغريب أن يكتب شوقي عن توت عنخ آمون تلك القصيدة
قسما بمن يحيى العظام… ولا أزيدك من يمين
لو كان من سفر إيابك… أمس أو فتح مبين
لرأيت جيلا غير جيلك…. بالجبابر لا يدين
ورأيت محكومين قد.. نصبوا وردوا الحاكمين
روح الزمان ونظمه.. وسبيله في الآخرين
أن الزمان وأهله… فرغا من الفرد اللعين
فإذا رأيت مشايخَ… أو فتية لك ساجدين
لاقِ الزمان تجدهمو.. عن ركبه متخلفين
هم في الأواخر مولدا.. وعقولهم في الأولين
ثم يرد بيرم بقصيدة عن توت غنخ آمون أيضا
مِـنْ عَـهْـدِ مَـا كَـتِّـفُـوكْ فِـي الْـقَـبْرِ يَا فِرْعُونْ دَاسِــتْ بِــلَادَكْ مِــلَلْ مِــنْ كُـلِّ شَـكْـلِ وْلُـونْ
وِخَــلَّــصُــوا مِــنَّـا تَـارْ مُـوسَـى وِتَـارْ هَـارُونْ وِبَــعْــدِ جُــورِ الــزَّمَــانْ، وِاللِّـي جَـرَى فِـيـنَـا
ظَهَرْتِ لَمَّا بَقَى لَكْ فِي الْمَنَامَة قْرُونْ
مِشْ عِيبْ عَلِيكْ تِسْتَخَبَّى نُصِّ مِلْيُونْ حُولْ وِكُــلِّ مِــنْ جَــاكْ بِــلَادَكْ يِـسْـأَلَ أَبُـو الْـهُـولْ
لَا يْــبُــوحْ بِـسِـرَّكْ لَا بِـمْـشَـاوْرَة وَلَا بِـالْـقُـولْ وِجَـا الـزَّمَـانِ اللِّـي بِـيْـلَاقُـوا الْـمَـنَـاجِـمْ فِيهْ
عِـتِـرْ عَلِيكْ لُورْدِ بِيْفَتِّشْ عَلَى بِتْرُولْ
ثم كتب بيرم عن الأزهر الشريف والمجاورين طلاب الجامعة العتيقة ويرد شوقي ويكتب عن الأزهر ثم كتب شوقي عن النيل .
مِنْ أَيِّ عَهدٍ في القُرَى تتَدَفَّقُ … وبأَيِّ كَفٍّ في المدائن تُغْدِقُ
ومن السماءِ نزلتَ أَم فُجِّرتَ من … علْيا الجِنان جَداوِلاً تتَرقرقُ
وبأَيِّ عَيْنٍ, أَم بأَيَّة مُزْنَةٍ … أَم أَيِّ طُوفانٍ تفيض وتَفْهَقُ
وبأَىِّ نَوْلٍ أَنتَ ناسجُ بُرْدَةٍ … للضفَّتيْن, جَديدُها لا يَخلَقُ
رثاء بيرم لشوقي وحصانة سومة
بعد فترة من نبوغ بيرم في الشعر تمني أن يعود سريعا لمصر ولكنه لم يستطع فعل ذلك.. فكتب “شمس الأصيل” تلك التحفة الوصفية العاطفية التي كانت من نصيب رياض السنباطي تلحينا، وثمة إجماع بين نقاد الموسيقي على أن هذه الأغنية هي أشد الأغنيات التصاقا بروح مصر، وتعبيرا عن نيلها وطبيعتها وريفها, وهنا قال شوقي بك أمير الشعراء: “أخاف على العربية من بيرم”.
كانت عبارة شوقي تشير إلى هذا الذيوع غير المسبوق لأشعار بيرم العامية وجريانها على الألسنة عبر الوسيط الموسيقي والغنائي، وكان الشيخ زكريا أحمد صاحب النصيب الأكبر في تلحين نصوص بيرم التونسي.. وبِغَضْ النظر عن عمق العلاقة، ومتانة الصداقة بين بيرم وزكريا، فالمؤكد أن طريقة شيخ الملحنين وأسلوبه التلحيني المتفجر بخفة الروح والسخرية كانت الأنسب لما يسطره بيرم من كلمات, لتشدو به كوكب الشرق.. وقد ظلت العلاقة بين بيرم وشوقي عجيبة وغريبة.. إعجاب متبادل؛ وحزن كبير في قلب بيرم لازمه طوال محنة النفي إذ كان يتمني أن يتوسط له شوقي عند الملك طليا للعفو؛ كي يعود لمصر لكنه لم يفعل, فلو عاد بيرم لمصر لتغير وجه الشعر فيها بأكثر من ذلك بكثير؛ بما كان سيبدعه بيرم.
ويحسب لكوكب الشرق أنها منحت بيرم الحصانة الكلثومية؛ وقد سعت كي يحصل علي جواز سفر مصري كثيرا، وهي صاحبة السبق في تكريم جمال عبد الناصر له.
شاء القدر أن يرحل شوقي الذي قال عن شعر بيرم: “هذا زجل فوق مستوى العبقرية” ويرثيه وكان ما يزال بمنفاه بباريس قائلا:
مكتوب لي في الغيب مصيبة
و الغيب عن علمي خــــافي
تطــــــــــول حياتي الكئيبة
و أرثي أميــــــر القـــــوافي
يا شوقي ساعة رهيبـــــة
لما المنـــــايا توافـــــــــي
عزيز على الشرق بات له
الشرق صـــــارخ و لاطم
و قفت أرثيك بصـــــــوتي
و الصوت على البعد خافت
موتك ، و يا ريتــــــه موتي
أنطق لســـــان كل ساكت
و مين ما يسمـــــع خفوتي
في ميتمك لمــــا ناحـــت
النواحــــــين في البــوادي
و المنشدين في العواصم
شعوب محمد و عيسى
لهم مذاهـــب مذاهـــب
جامع يخالــــــــف كنيسة
و شيخ على عكس راهب
قروا صحـــــايف نفيسة
لك فيها وحـــي المواهب
الكل صلـــــــــــوا عليها
القبعـــــات و العمــــايم
تسأل باريس عن غيابك
وإنت عــــــارف جوابها
دي مكتبك في شبابك
وملعبك في شبــابها
وصفتها في كتابــــــك
يوم كنت تخشى خرابها
لو كان تقــــدر جميلك
تنصب عليـــك المياتم
من جاك وزارك في دارك
و قال يا دار ابن هاني
يقـــــول لقبرك مبــارك
اقبل يا قبــــــر التهاني
يا قبــــــر طال افتخارك
على القبور و المباني
فيك الأمير اللي ساهر
فيك الأمير اللي نايــم.