رؤى

ضيفة خاتون.. سيدة قادت الرجال

ما أكثر الكلمات التركية التي شقت طريقها إلى معاجم اللغة العربية وإلى ألسنة العامة في بلاد المشرق العربي، ومن بين هذه الكلمات، كلمة “خاتون”.

وخاتون لفظ تفخيم وتبجيل تركي، وهو لقب للسيدة النسيبة المنتمية عادة الى عائلة عريقة ذات شأن، ويُطلق على سيدات المجتمع من المنتميات إلى أُسر الحكم، وقد شاع استخدامه في ظل سيطرة الأمراء والسلاطين من الأتراك السلاجقة على مقدرات الخلافة العباسية، فكان هذا اللفظ يُطلق على زوجة السلطان وأمه وأخواته وبقية الأميرات من آل بيته.

ومن السيدات اللاتي حملن لقب “خاتون” في العصر الأيوبي واستطعن أن يسطرن أسماءهن في سجل التاريخ، وفي ذاكرة الأمة “ضيفة خاتون” بنت الملك العادل سيف الدين أخو السلطان صلاح الدين.

حيث استطاعت هذه السيدة أن تحكم –فعليا– إمارة حلب في بلاد الشام، وقادت رجالها لسنوات وأخضعت حكام المدن المجاورة لسلطانها.

ويشير الدكتور أحمد رضا أحمد عمر في دراسة له عن “إسهام المرأة في المجال العمراني والثقافي في العصر الأيوبي” إلى أنَّ نموذج “ضيفة خاتون” لم يكن بالشاذ أو المستغرب في ذلك العصر حيث “مارست المرأة في العصر الأيوبي الحياة السياسية، وكان لها دور بارز في إدارة الدولة وتدبير شئون الحكم وأموره المختلفة وجوانبه المتعددة.. وأعظم هذه الأدوار توليها الحكم”.

مدينة حلب
مدينة حلب

كانت “ضيفة خاتون” زوجةً لابن عمها نجل السلطان صلاح الدين، الملك الظاهر. وحين توفي الظاهر عام 1216م عن عمر يناهز الخامسة والأربعين؛ ورث ولده من “خاتون”، الملك العزيز محمد، على الفور منصب والده حاكما لحلب.

إلا أنَّ وفاة العزيز محمد عام ١٢٣٦م  أحدثت فراغا في السلطة حيث أنَّ ولده وولي عهده الناصر يوسف كان في الثامنة من عمره في ذلك، وهنا تصدت “ضيفة خاتون” لمهمة الوصاية على الملك الطفل وأصبحت الحاكمة الفعلية لحلب.

ويصف المؤرخ صلاح الدين الصفدي في كتابه “الوافي بالوفيات” شخصية “ضيفة” بقوله “كانت ملكة جليلة عاقلة” ويضيف أنَّها بعد وفاة ولدها الملك العزيز “تصرفت تصرف السلاطين ونهضت بالمُلك أتم النهوض بعدل وشفقة وبذل وصدقة”.

ويشير إلى سياستها في حلب فيقول أنها”…أزالت المظالم والمكوس في جميع بلاد حلب، وكانت تؤثر الفقراء وتحمل إليهم الصدقات الكثيرة”.

وإضافة إلى ذلك فقد كانت تؤثر الفقراء والزهاد والعلماء وأهل الدين، واشتهرت بحسن السياسة والقيادة وتصدت لمحاولات كل من الصليبيين وسلاطين السلاجقة على حد سواء للسيطرة على حلب.

أما على صعيد سياستها الخارجية فقد قطعت الخاتون علاقاتها مع أخيها الملك الكامل في مصر؛ وذلك لرفض الأخير وصايتها على حكم حلب وإصراره على ضمها إلى سلطانه؛ فما كان من الخاتون إلا أن شكلت حلفا من حكام دمشق وحمص وحماه لمواجهة الكامل.

إلا أن هذا الحلف تفكك بسبب وفاة الملك الأشرف حاكم دمشق في عام ١٢٣٧م، ما مكن الملك الكامل من الزحف بجيشه إلى دمشق والسيطرة عليها، إلا أن القدر لم يمهله ليستولي على حلب أيضا حيث وافته المنية في نفس العام.

"مدرسة الفردوس" التي أقامتها الخاتون في حلب
“مدرسة الفردوس” التي أقامتها الخاتون في حلب

وهنا اغتنمت الخاتون الفرصة فضمت إلى ملكها كل من مدينة حماة ومَعَرَّة النعمان، وفي الوقت ذاته وصل ابن أخيها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل إلى كرسي السلطنة في مصر، وكان على عكس أبيه غير راغب في قتالها فأرسل إليها رسالة يقول فيها : “البلاد كلها بحكمك وإن شئت إرسال نائب يتسلم هذه البلاد وغيرها فأرسليه لأسلم إليه ما تأمرين بتسلمه”.

فقبلت الخاتون منه هذه السياسة المهادِنة، وفي الوقت ذاته عززت موقفها باعتراف حاكم دمشق الجديد الملك الجواد بسلطتها وامتثاله لأوامرها؛ فاستطاعت حفظ التوازن بين كل من مصر والشام.

وظلت الخاتون الآمر الناهي في حلب حتى توفيت عام ١٢٤٢م وخلفها حفيدها الناصر يوسف الذي كان قد شب عن الطوق وصار رجلا.

ويروي الصفدي أنَّ أهل البلاد حزنوا أشد الحزن لوفاتها؛ حيث “​​أُغْلِقَتْ لموتها أبواب حلب ثلاثة أيام”.

ولازالت “مدرسة الفردوس” التي أقامتها الخاتون في حلب تقف شامخةً هناك بألوان حجارتها المتميّزة، وتيجان أعمدتها وبركتها المثمّنة ذات الفصوص الداخلية؛ مُذَكِّرةً الجميع باهتمام الخاتون بالعمران أيضا، وبأنَّ المرأة في ذلك العصر لم تكن مُهَمَّشَةً أو معزولة في “الحرملك” كما يحاول البعض أن يصورها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock