في ثلاثينات القرن العشرين، كان الأديب المصري “يحيى حقي” يعمل موظفا في القنصلية المصرية في مدينة “اسطنبول” التركية، والتقى هناك شابا مصريا لم يجد مفرا من أن يكتب عنه لشدة إعجابه به، ووصفه بأنَّه “بُعْبُع الإنجليز”.
لم يكن “بُعْبُع” الاحتلال الإنجليزي كما اسماه “حقي” سوى الشاب المصري “أحمد عبد الحي كيره” ذلك المناضل الذي بقيت عملياته البطولية إبَّان ثورة عام ١٩١٩، مجهولة لكثيرين من بني وطنه.
كان “كِيْرَه” طالبا جامعيا في مدرسة -كليه لاحقاً- الطب في جامعة فؤاد الأول –القاهرة حاليا– حين اندلعت أحداث الثورة وكان عليه وفقا لتعليمات قيادة الجهاز السري الذي كان ينتمي إليه أن يخفي حقيقة دوره الوطني عن الجميع بما في ذلك رفاق الدراسة.
ولهذا السبب تحديدا امتنع “كِيْرَه” عن المشاركة في الإضراب الذي أعلنه طلبة الجامعة؛ احتجاجاً على نفي سعد زغلول الذي كان بمثابة شرارة الثورة، وتعرَّض بسبب موقفه هذا لمضايقات عدة من الطلبة الذين لم يروا فيه سوى شاب مدلل مستهتر بقضية بلاده، بل بلغ الأمر ببعضهم أن وصفه بأنَّه “ابن الإمبراطورية البريطانية”.
ويشير الباحث التاريخي “أيمن عثمان” في كتابه “تراث مصري” إلى أنَّ هذا الدور هو ما أتاح لـ “كِيْرَه” حرية التجول والتنقل في أروقة مدرسة الطب؛ حيث اطمأن مدير المدرسة الإنجليزي الدكتور “كيتنج” إليه لامتناعه عن الإضراب وانتظامه في الدراسة.
لكن ما لم يخطر في بال الدكتور “كيتنج” هو أنَّ “كِيْرَه” استغل ثقته هذه، ليدخل إلى معامل المدرسة، ويجمع مواد كيماوية من هناك لاستخدامها في صناعة القنابل والمتفجرات التي كان أفراد الجهاز السري يلقونها على جنود وضباط الاحتلال وعملائهم من المصريين.
ومن المدهش حقا أنَّ “كِيْرَه” استطاع أن يلعب دور الطالب المنصرف عن العمل الوطني، لخمس سنوات كاملة من ١٩١٩، وحتى ١٩٢٤، حين انكشف دوره الوطني خلال محاكمة الاحتلال للمتهمين باغتيال السير الإنجليزي “لي ستاك” قائد القوات المصرية في السودان.
حيث أسفرت التحقيقات في تلك القضية عن توصل الاحتلال لدور “كِيْرَه” في تصنيع المتفجرات واشتراك الشاب –الذي لم يتجاوز حينها الثامنة والعشرين من عمره– في عمليات فدائية ضد القوات الإنجليزية.
وحين انتبه المحتلون لمدى خطورة “كِيْرَه” الذي خدعهم لسنوات، أصدرت المخابرات البريطانية بياناً لعملائها اعتبرت فيها “كِيْرَه” “مطلوباً حيا أو ميتاً” وعممت هذا البيان على كافَّة مكاتبها حول العالم.
إلا أنَّ الجهاز السري كان أسرع من مخابرات العدو؛ فسارع أفراده إلى تدبير هروب “كِيْرَه” من مصر بجواز سفر مزور إلى ليبيا ومنها إلى “اسطنبول” حيث التقاه “حقِّي”.
لم يخف “حقِّي” –فيما كتبه عن “كِيْرَه”– إعجابه الشديد به حيث وجد فيه على حد تعبيره “المثل الفذ للرجل الشريد” وكانت ملابسه “تدل على مقاومة عنيدة للفاقة” وكان رغم بعده عن الوطن محافظاً على الحذر والترقب المفترض برجل مثله لأنَّه يعلم تماماً أنَّ “المخابرات البريطانية لن تكف عن طلبه حتى لو فرَّ إلى أقصى الأرض”.
وصدق حدس “كِيْرَه” حيث لاحقه ثلاثة عملاء للمخابرات البريطانية إلى تركيا عام ١٩٣٦، وعبر سلسلة من الاتصالات عبر وسطاء؛ استطاع هؤلاء العملاء استدراج “كِيْرَه” من المكان الذي كان يكمن فيه في “اسطنبول” إلى منطقة نائية.. وما أن وصل “كِيْرَه” إليها حتى اغتاله جواسيس الاحتلال ولم يكتفوا بقتله بل مثلوا بجثته؛ مفرغين فيها حقدهم وكراهيتهم للرجل الذي أذلَّ قواتهم طويلاً.
ظلت جثة البطل المصري في العراء حتى عثر عليها أفراد قوات الأمن التركية، وتعرفوا عليها وقاموا بدفنه ليختم عاشق تراب مصر حياته بعيداً عن بلاده التي احبها وقاتل من أجلها كما حدث مع عشاق آخرين للمحروسة مثل النديم ومحمد فريد.