“إذا أقبلت جاءت تُقاد بشعرة… وإن أدبرت قدّت وراها السلاسلَ”. هذا هو حال الدنيا، وحال كل شيء فيها. إن كان مقدراً لأمر صعب أن يتحقق فسوف يتحقق. بل وأحياناً ما يتحقق بسهولة غير متوقعة. وعلى النقيض من ذلك، إن قُدِّرَ لشيء أن يضيع فسوف يضيع حتى لو أمسك الناس بتلابيبه وقيدوه بالأغلال والسلاسل. صحيح أنَّ الحياة تعتمد على الجهد والعمل وتعطي لمن يكد ويكافح إلا أنَّ النجاح فيها مع ذلك يحتاج إلى قدر من الحظ والتوفيق. وحظوظ الناس تتفاوت أفراداً كانوا أو أمم. البعض حظوظه أكبر والبعض الآخر مآزقه أكثر.
ولا أرى أنَّ حظ العرب من المآزق كبيراً، وإنَّما خطاباتهم السياسية والفكرية على مر العصور هي التي تصوره كذلك. تسرف في “مأزقة التاريخ” وتصويره كسلسلة لا نهاية لها من مآزق سقط العرب فيها كضحايا، ولم يكونوا يوماً جناة في حق أنفسهم. من يرجع إلى الماضي البعيد يجد ورطات وقعوا فيها وصفت وما تزال إلى اليوم توصف بالمآزق التاريخية. من بينها حروب الردة والفتنة الكبرى وسقوط بغداد في أيدي المغول والحروب الصليبية وسقوط الأندلس ومآزق كبرى أخرى يلخصها العنوان الأبرز منذ أكثر من ألف عام وهو “المأزق الحضاري”.
أمَّا من يهتم بالحاضر وبرصد القضايا المعاصرة فلن تخفي عليه إشارات بالجملة إلى مآزق توصف باستمرار بأنَّها تاريخية. من مأزق التنمية إلى مأزق الديمقراطية إلى مأزق بناء الدولة المستقلة. ولكم استوقفني في مكتبتي المتواضعة وأنا أراجع بعض العناوين فيها ظهور كلمة “المأزق” في كثير من أعمال الباحثين والمفكرين العرب. من بينها على سبيل المثال لا الحصر كتاب “معتز الخطيب” بعنوان “مأزق الدولة بين الإسلاميين والعلمانيين”، وكتاب “عبد الخالق فاروق” عن “مأزق الاقتصاد المصري وكيفية الخروج منه”، وكتاب “نجيب نصار” حول “مأزق الديمقراطية في الوطن العربي”، وكتاب “سعد الدين إبراهيم” عن “الخروج من زقاق التاريخ”، وكتاب “هاشم صالح” المعنون “الإنسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟”، وكتاب “نجاح كاظم” عن “مأزق الإصلاح العربي”، وكتاب آخر وليس أخير “لعبد الرحمن البيضاني” عن “مأزق اليمن في صراع الخليج”.
أمَّا لو سألت بعض خبراء المستقبليات عن توقعاتهم عن الغد العربي؛ فستجدهم يحيلونك على سبيل المثال إلى بعض تقارير التنمية البشرية الصادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أو إلى تقارير مؤسسات بحثية دولية مثل تقرير مؤسسة “كارنيجي” بعنوان “انكسارات عربية: مواطنون ودول وعقود اجتماعية” لتعرف من الآن أنَّ المستقبل العربي السياسي والاقتصادي والاجتماعي سيكون مليئاً بالمآزق.
فما الحكاية؟ هل المآزق قَدَرٌ عربي مستدام لا مفر منه؟ هل حقاً أنَّ التاريخ فرض “المأزقية” على العرب؟ هل “المأزقية” حتمية تاريخية لن يفلتوا منها؟ أم أنَّهم من يتعمد “مأزقة” التاريخ، والتعامل معه على أنَّه ورطة إلى يوم الدين؟ ألم تمر أمم أخرى بمآزق كبرى قيل في حينها أنها تاريخية لكنها تجاوزتها؟ أليس “المأزق تاريخي” مجرد ورطة مؤقتة، وليس وضعاً دائماً؟ ورطة تنتهي بعد حين لتصبح من الماضي؟ أليس التاريخ ماض مات وشبع موتاً؟ وإن كان كذلك، فلماذا يُصِرُّ العرب على استعمال كلمة “تاريخي” لا ليعبروا بها فقط عن الماضي وإنَّما ليلمحوا كذلك إلى حجم ما يلاقونه في الحاضر من معاناة وما يعتقدون أنَّهم قد يصادفوه في المستقبل؟ لماذا تواصلت مآزق العرب القديمة جداً عبر العصور فيما مآزق كثيرٍ غيرهم إمَّا حُسمت أو نُسيت؟ هل أصبحت “المأزقية” مدخلاً لفهم الشخصية العربية وتفسير أحوال المنطقة بماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ يبدو أنَّ الأمر كذلك.
فعلى ضوء ما قاله المعري: “ثلاثة أيام هي الدهر كله وما هن غير الأمس واليوم والغد” يبدو أنَّ التصوير العربي للدهر يعشق “المأزقية” ويبالغ في “مأزقة” التاريخ، ويرى الزمن كله كسلسلةً متصلةً من المآزق أو عنق زجاجة له بداية وليس له نهاية. غير أنَّ هذا التصوير لا يبدو منطقياً أو يدل على حتمية أو ينسب إلى الأقدار أو يُرى فقط كابتلاء كوني دائم. وإنَّما هو تصوير معيب يكشف عن تخطيط متعمد وخلل جسيم في بنية الخطابين السياسي والفكري العربي. تصوير يهرب به أصحابه من المسئولية ويضللون بسببه أنفسهم.
نعم، هناك مآزق وقع فيها العرب مثلهم في ذلك مثل غيرهم. لكن أن يوحى بأنَّ ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ليس إلا مأزقاً تاريخياً مفتوحاً؛ فأمر يدعو إلى الدهشة والشك. إنَّهم أحبوا واستسلموا إلى “مأزقة التاريخ” التي هي تَقَوُّل عليه وتلفيق لرواياته بما يسمح بالتهرب من نقد الذات ووضع العبء على كتف التاريخ. وهو ما يلخصه بيت الشعر البليغ لمحمد الأسمر.. والذي يقول: “هداك الله يا تاريخُ يا شيخ الأضاليل…فما أقدرَ كفَّيكَ على نسج الأباطيل”.
“مأزقة التاريخ” ليست إلا تلاعباً بالعقول من أجل حشد الناس خلف اعتقاد واهم، بأنَّ الذنب ليس ذنبنا وإنَّما هو ذنب التاريخ، وأنَّ الزمن برغم جهودنا ومشروعاتنا وإصلاحاتنا؛ يقف دوماً بالمرصاد في وجهنا. نحن نحاول الخروج من المآزق لكن التاريخ، وما أقواه، يعود ليفرضها علينا. إنَّها مناورة صريحة تتناسى أنَّ التاريخ لا يصنع المآزق وإنَّما يصنعها الناس بتصرفاتهم وأحياناً ما يلقون بأنفسهم فيها ليخفوا مآربهم الحقيقية.
وهذا تماماً حال معظم العرب مع معظم المآزق. يصنعونها ثم يدعون أنَّها قدرهم. يستديمونها من عصر إلى عصر ويواصلون الإدارة بها وليس التفكير في التخلص منها. هم من “يُمَأزِقُونَ” التاريخ، الذي قد تكون “مَأْزَقَتُه” هي التاريخ العربي نفسه. هي أسلوب العقل العربي في التهرب من المسئولية من عصر إلى عصر سواء عن الاستبداد أو الفساد أو الطائفية أو القهر أو القمع أو التبعية أو الانكسار الحضاري وغيرها مما يتكرر بأنَّها مآزق تاريخية، بالطبع وفق تعريف عربي خاص لكلمة “تاريخية” لا تعني حالة انتهت في الماضي وإنَّما واقع يمتد إلى الحاضر وتظهر ملامحه في ثنايا المستقبل.
لقد اشتُقت كلمة “مأزق” من الفعل الثلاثي “أزق” أي ضاق. ومنه اشتُقت كلمة أخرى هي “الزقاق” أو الحارة الضيقة التي قد لا تتصل بطريق عام إلا عبر منفذ ضيق أشبه بخرم إبرة. ومن نفس الجذر يمكن اشتقاق مصطلح “المَأزَقَة”.
“مَأزَقَة التاريخ” استراتيجية للإدارة والتحكم والتأثير والتلاعب. هي طريقة للاستفادة من المآزق وليس لتفاديها. وسيلة لاستدامة الورطات الكبرى وليس للتخلص منها. فمن غيرها يعطي شرعية وشعبية لمن يدعون أنَّهم يواجهونها؟.
“مَأزَقَة التاريخ” كذب على الذات، وعلى التاريخ تدعي أنَّه ثابت يضغط علينا بلا انقطاع وتصوره على أنَّه ورطة مفتوحة ومؤامرة كونية كبرى.
“مَأزَقَة التاريخ” حجة تبرر الفشل التنموي والسياسي والاجتماعي والفكري، وذريعة تُغرر بالعقول؛ فتوهمها بأنَّ المآزق ليست مسئولية من يديرون وإنَّما أسقطها التاريخ على رءوسهم.
“مَأزَقَة التاريخ” نهج يتبعه من يريد الحفاظ على الأوضاع كما هي، يستعملونه ضد الداعين إلى التغيير؛ ممن يقولون بأنَّ المآزق التاريخية ليست إلا وقائع مات أغلبها ولا يحييها غير المستفيدين من ورائها. “مَأزَقَة التاريخ” هي تحويل التاريخ من كتاب قديم للعِبَر إلى حاجز ضد العبور إلى المستقبل.
“مَأزَقَة التاريخ” ليست حكايات منفردة تروى عن ورطات واجهت دولاً عربية؛ وإنَّما بِنية فكرية وسياسية محترفة أتقنت لوم الزمن والتهرب من لوم الذات.
“مَأزَقَة التاريخ” شاهد علينا وليست شاهداً لنا. نعيب بها زماننا والعيب فينا. وأي عيب؟ إنَّه عيب جسيم يلتمس الأعذار بأي شكل لكي تبقى المنطقة في نفس الدوائر العدمية المفرغة التي تدور فيها من مئات السنين.
“مَأزَقَة التاريخ” باختصار هي أعلى درجات التَبَلِّي على التاريخ.