رؤى

أحمد كمال باشا .. رائد المدرسة العربية لعلم المصريات (2-2)

“تلك آثارنا تدل علينا.. إذ ليس في الأمصار كمصرنا.. تاريخها أعم بيانًا وأتم برهانًا”.

أحمد كمال باشا

كان أحمد كمال [1851-1923] – مترجم الأنتيكخانة (مصلحة الآثار) المصرية، وناظر مدرستها البهية، ومعلم التاريخ واللغة الفرنسية والبربائية (الهيروغليفية)– على علم بأن التاريخ فن جليل المقدار كثير الفوائد والاعتبار يدلنا على أحوال الأمم الماضية وحوادث العصور الخالية، سيَّما تاريخ مصر التي هي الوطن المحبوب والمقام المرغوب، فإنه من العظمة والفخامة في أعلى مكان، وله من قديم الزمان قدر وشأن .. وكيف لا؟ وهو تاريخ أهل الفلسفة والبراعة، والشرائع والقوانين، والسياسة والصناعة الذين لم تجحد نعمة اقتباس علومهم أمة ولا ملة، ولا أنكرت الاستضاءة بنور نبراسهم مملكة عظيمة ولا دولة.

بهذا الفخر والاعتزاز وتلك الروح الوطنية المخلصة ذكر أحمد كمال باشا في مقدمة أول كتبه (العقد الثمين في محاسن أخبار وبدائع آثار الأقدمين من المصريين)، والذي طبِع عام 1300هـ/1883م، السبب الذي دفعه إلى وضع كتابه عن تاريخ قدماء المصريين. فقد أراد أن يبين فيه أحوال من حكم مصر منهم في كل حين، ولذلك اقتطفه من آثارهم القديمة، واستنبطه من التواريخ ذات الفوائد العميمة، وسلك فيه طريق الإيجاز ليكون سهل التناول لأبناء وطنه.

وقد حمله على ذلك ما رآه من تنافس الأجانب في اقتناء كل ما يخص علم المصريات، واهتمامهم بالاعتناء به إذ يرحلون لمشاهدة آثار قدماء وطننا، ويبذلون على حيازة تاريخها نفائس النفوس والأموال؛ قاصدين تعليمه لأطفالهم وتداوله بين رجالهم، بينما نحن بذلك أحق وأحرى، وصاحب الدار يلزم أن يكون بها أدرى!

تلك كانت غاية أحمد كمال التي بينها بجلاء بنفسه، والتي أفنى من أجلها حياته بين ردهات معابد مصر القديمة؛ مدققًا في نقوشها ومتفحصًا لنصوصها غير مكتفٍ بتأملها والانبهار بدقتها وبديع صورتها؛ بل ساعيًا إلى فك طلاسم رموزها وسبر أغوار ألغازها؛ فكانت له أسبقية الحضور لمزاحمة أصحاب الفضول من الأجانب الوافدين لبلد عريق يطمع ساساتهم وحكامهم في بسط نفوذهم عليه للاستيلاء على خيراته والاستئثار بثرواته.

وإذا كان من غير الممكن، تجاهل أوائل من درسوا في مدرسة اللغات القديمة، مثل  أحمد بك نجيب مفتش وأمين عموم الآثار المصرية، وصاحب كتاب الأثر الجليل لقدماء وادي النيل (1895)، فزميله في الدراسة أحمد باشا كمال؛ تتجلى قيمته العلمية ليس فقط في كونه أحد أهم وأبرز أوائل علماء مصر في الآثار واللغة المصرية القديمة؛ بل لأنه كان أول من بادر بتمهيد الطريق لكل مصري وعربي؛ لدراسة علم المصريات باللغة العربية؛ بعدما كان الإلمام به حكرًا على الأجانب وبلغاتهم الإفرنجية.

لم ييأس أحمد كمال من تحقيق حُلمه بتأسيس المدرسة المصرية لعلم المصريات إلى أن خرجت للنور، فكان أول تلاميذها شيوخ هذا العلم من المصريين أمثال: الدكتور سليم حسن [1893-1961] صاحب موسوعة مصر القديمة، أكبر موسوعة عن الحضارة المصرية القديمة باللغة العربية، ومحمود حمزة زوج ابنة أحمد كمال وأول مدير مصري للمتحف المصري، وابنه الدكتور الطبيب حسن أحمد كمال، صاحب كتاب الطب المصري القديم، وتلاهم بعد ذلك أحمد فخري ولبيب حبشي وغيرهم. هذا بالإضافة إلى مفتش الآثار، محمد شعبان ابن شقيقة أحمد كمال وخليفته الذي تولى بعده وظيفة الأمين المساعد للمتحف المصري بعد إحالته للمعاش عام 1916.

وهكذا لا يملك كل من يُقدر قيمة العلم والعلماء- سوى الاعتزاز والافتخار بأحمد كمال باشا الرجل الوطني الذي انتمى لوطنه ولعروبته، وكان بمثابة الشعلة التي أضاءت الطريق للأجيال القادمة؛ حتى أصبحت هناك الآن جامعات مصرية تدرس علم المصريات باللغة العربية، وتمنح درجات علمية للمتخصصين فيه.

وبخلاف علماء الغرب، الذين من مصلحة بلادهم الاستعمارية، أن يفصلوا مصر والشرق عن كل ما له صلة بالعروبة – خاصة وأن الإسلام والعروبة توأمان، كان أحمد كمال يتمتع بحس عروبي وطني يميزه ويشكل ملامح شخصيته. فبعد كثرة مطالعته لنصوص اللغة المصرية القديمة على مدار أكثر من أربعين عامًا؛ إذا به يعلن أنه اكتشف أنها واللغة والعربية من أصل واحد؛ بل ربما كانتا لغة واحدة افترقتا بما دخلهما من القلب والإبدال مثلما حدث في كل اللغات القديمة.

ولذلك حاول أحمد كمال تأصيل رؤيته تلك بشكل علمي، من خلال كتبه وأبحاثه التي كان حريصًا فيها على إثبات الصلة، بين اللغات السامية -خاصة اللغة العربية- واللغة المصرية القديمة. ولقد أشار إلى تلك الصلة في محاضرة ألقاها في مدرسة المعلمين الناصرية في أوائل عام 1914، ونشر هذا البحث في مجلة المقتطف في الجزء الثالث من المجلد الرابع والأربعين.

وقبل وفاته بعام انتهى أحمد كمال من مخطوط معجم ضخم للغة المصرية القديمة بعد عشرين سنة من العمل الدءوب لإنجاز اثنين وعشرين مجلدًا، ما يُعدّ أول قاموس عربي فرنسي للغة المصرية القديمة يضم كلمات خطوطها الأربعة (الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية والقبطية) وما يقابلها في اللغة العربية. وقد اعتمد فيه على المقاربة مع اللغة العربية مع وضع قواعد الإبدالين الصوتي والمكاني في الحسبان.

ولكن هذا المعجم الفريد لم تهتم وزارة المعارف آنذاك بطباعته، نظرًا لدحضه لنظريات الاستشراق والتغريب التي تدعو إلى ربط مصر والمصريين بالفرعونية، وفصلهم عن العروبية، ومن ثم رفْض كل ما يقارب بين أصل الشعب المصري والشعوب العربية.

ومنذ أيام قليلة.. عاد الضوء من جديد لإبراز الدور التنويري والتعليمي لأحمد كمال باشا، بمناسبة مرور مئة عام على رحيله، إذ أقامت مكتبة الإسكندرية احتفالية بمناسبة الانتهاء من ترميم ورقمنة مخطوطه القيم “معجم اللغة المصرية القديمة” الذي سبق وشرع في طباعة مجلداته المجلس الأعلى للآثار منذ عام 2002، فأخذت على عاتقها وعلى مدار سنوات ترميم وصيانة مخطوطات هذا المعجم المهداة إليها من أسرته وذلك باتباع الأساليب الحديثة في ترميم المخطوطات، بالإضافة إلى رقمنته لسهولة الإطلاع عليه، هذا إلى جانب حفظه في مكتبة الكتب النادرة، مع عرض أجزاء منه للجمهور لأول مرة في معرض على هامش الندوة مع بعض المؤلفات النادرة له وصور الوثائق الخاصة به والمحفوظة في دار الكتب والوثائق القومية. كما أنتجت المكتبة بهذه المناسبة فيلمًا وثائقيًّا عن أحمد باشا كمال تحدث فيه اثنان من أحفاده.

https://www.youtube.com/watch?v=1zw5WowMV1Y

في عام 2007 نظَّم مركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية ندوة بعنوان: “البرهان على عروبة اللغة المصرية القديمة” لمناقشة كتاب بهذا العنوان للدكتور على فهمي خشيم يثبت فيه أن اللغة المصرية القديمة هي إحدى صور اللغة العربية التي كانت سائدة في المنطقة العربية مثلها مثل الآرامية واللوبية القديمة. وهكذا يكون الدكتور خشيم هو أحد من ساروا على درب أحمد كمال باشا مثل آخرين منهم: الدكتور محمد بهجت القبيسي، والدكتور عكاشة الدالي.

وفي أكتوبر عام 2010 نظَّم مركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية احتفالية خاصة بالأثري أحمد كمال باشا ورواد الخطوط والنقوش في العالم العربي، ومن خلال تلك الاحتفالية طرح الدكتور عبد الحليم نور الدين أستاذ المصريات (ومستشار مدير مكتبة الإسكندرية آنذاك) ضرورة التعاون بين الدول العربية لدراسة اللغات والآثار والحضارة لكل بلد في كل عصورها من خلال منهج محدد وموحد تحت مظلة واحدة هي المظلة العربية. كما دعى إلى الاهتمام بدراسة المصريات والآثار في العالم العربي باللغة العربية وإنتاج المزيد من الأبحاث العلمية بتلك اللغة.

وفي هذه الندوة.. برزت أهمية منهج أحمد كمال الذي كان أول من اهتم بالخطوط والكتابات الأثرية بوصفها مدخلا لفهم الحضارات العربية القديمة، وللتأكيد على الجذور المشتركة فيما بينها، وهذا ما أشار إليه دكتور لؤي سعيد المشرف حاليًا على مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية، والذي أثار من جديد منذ أيام في احتفالية مئوية رحيل أحمد كمال باشا قضية (مصرية علم المصريات) وذلك من خلال نموذج شخصية أحمد كمال، التي كانت شخصية مضيئة في تاريخ العمل الوطني والثقافي في مصر؛ إذ رفض اتباع منهج علماء المصريات الغربيين؛ بل كان يسعى إلى تمصير وتعريب علم المصريات، وهو الأمر الذي لم يصبح بعد مشروعًا علميًّا وطنيًّا تتحرر به مصر من التبعية العلمية للغرب، وتبرز من خلاله هويتها المعبرة عنها وعن استقلالها المعرفي والعلمي والثقافي.

فهل من الممكن أن يكون هناك كيان واحد يضم علماء المصريات من المصريين والعرب، فيجمعهم ويوحد جهودهم العلمية، من أجل إكمال مسيرة أحمد كمال باشا، في العمل على زيادة الوعي بالحضارة المصرية القديمة في مصر والوطن العربي؟

وهل من الممكن أن تكون هناك مؤسسة علمية بحثية تحمل اسم أحمد كمال باشا، هدفها إكمال مسيرته العلمية بدراسة علم المصريات، من خلال رؤيته العروبية فلا نكتفي فقط بإحياء تراثه العلمي، دون أي تخطيط للإضافة إليه وتطويره وتحديثه من خلال المزيد من الأبحاث والدراسات؟

أم أن ذلك الأمر ليس سهلًا.. في ظل عمل البعثات الأجنبية في التنقيب عن الآثار المصرية، بالرغم من كفاءة رجال الآثار المصريين وكثرة عددهم، وفي ظل التغافل عن أهمية تعريب كل ما يخص الآثار المصرية وعلم المصريات، وفي ظل إهمال اللغة العربية في مجال التعليم وعدم التقيد بإجادتها على كافة المستويات العلمية والإعلامية والثقافية والرسمية والشعبية، بل وفي ظل ذلك الإصرار الغريب على السماح بسفر الآثار المصرية لعرضها في الخارج؟!

إن الاهتمام برؤية أحمد كمال فيما يخص عروبة مصر القديمة، سواء من قِبل الأوساط العلمية، أو الثقافية، أو البحثية، أو الإعلامية في مصر والعالم العربي لم يزل اهتمامًا فرديًّا محدودًا، ولم يُقدَّر له بعد أن يكون مشروعًا بحثيًّا ضخمًا تتبناه المؤسسات الوطنية المصرية أو العربية.

وبالتالي فإن المدرسة العربية في علم المصريات، التي نردد أن أحمد كمال هو رائدها.. لم تجذب بعد العدد المطلوب من الباحثين العرب والمصريين، لاستكمال مشروعه البحثي؛ لأنها بوفاته لم يعد هناك من يرعاها أو يطورها. وهذا يعني أن تلك المدرسة ما زالت تفتقد مؤسسها وتبحث عن هيئة وطنية قادرة على دعمها لاستكمال رسالتها، وعن طلاب علم يمتلكون جزءًا ضئيلًا من حماس أحمد كمال لعروبة مصر، ولديهم القدرة على ترك بصمة تضاهي بصمة أحمد كمال في قوتها وتفردها.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock