ما وصلنا إليه، في حديثنا السابق عن مصطلح “الحاكمية”، وكيفية صياغته على يد “سيد قطب” ومن قبله أستاذه “المودودي” لا يعني أننا نوجه اتهاما بـ”الوهم” إلى كل منهما.. ولكننا نحاول تبيان “الخطأ” الحاصل في محاولة كل من المفكر والأستاذ “إسناد” الفكرة، إلى آيات بعينها من آيات الله البينات: ليس -فقط- دونما مراعاة الإطار الدلالي لهذا المصطلح (حاكمية)، وللجذر اللغوي الذي اشتق منه “حكم”، كما ورد في كتاب الله الكريم.. ولكن، أيضًا، عبر اجتزاء “آواخر” آيات ثلاث من سورة المائدة، بل وخلعها عن السياق الواردة فيه، ورفعها شعارا؛ لا لتحكيم “الحاكمية”، بل لتبرير “التكفير”.
ولعل خطأ الإسناد، المشار إليه، يتبدى بوضوح إذا لاحظنا: أنَّ فكرة الحاكمية قد تم بناؤها اعتمادا على تفسير الآيات المذكورة، على أساس من “النهج التجزيئي” من جهة؛ واعتمادا على قاعدة “تفسير هذه الآيات على عموم ألفاظها” من جهة أخرى.
وهذه الآيات، هي: “… وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ… وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ… وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ” [المائدة: 44، 45، 47].
خطأ الإسناد والتأويل
فإذا نظرنا مليًا إلى الآيات، وحاولنا مقاربتها بعيدا عما يسمى بـ”أسباب النزول”، من جانب؛ وبعيدًا، في الوقت نفسه، عن النهج التجزيئي السائد، عند معظم من حاولوا “تفسير القرآن”؛ أي: بناءً على عدم اجتزاء الآية من السياق الواردة فيه، من جانب آخر؛ فضلًا عن الالتزام بالإطار الدلالي للمصطلح عبر مواضع وروده في آيات الله البينات، من جانب أخير..
نقول: إذا حاولنا ذلك، يمكننا أن نلاحظ، أن قوله سبحانه: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ”، يُشير إلى أنَّ من لم “يقض” (“يَحْكُمْ” بالمصطلح القرآني)، في الواقعة المطروحة عليه بما أنزل الله، فقد أنكر حكم الله في الواقعة.. وبالتالي، “فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ”.
ولعل هذا يتبدى بوضوح، إذا أكملنا الآية ولم نجتزئها من السياق الواردة فيه؛ ولاحظنا إلى من يتعلق “الخطاب” في الآية..
ـ يقول سبحانه وتعالى: “وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ” [المائدة: 44]. هنا، نجد أن الخطاب، في هذه الآية، يتعلق باليهود، الذين تولوا عن تطبيق “حُكْمُ اللَّهِ” الذي ورد في “التَّوْرَاةُ”، وطلبوا تحكيم الرسول (عليه الصلاة والسلام)، في واقعة معينة؛ ولذا، جاء الاستفهام “وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ”.
ـ ثم، تأتي الآية التالية، التي تم اجتزاؤها لتبرير الدعوة إلى الحاكمية، إياها.. نعني: قوله سبحانه: “إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ” [المائدة: 44].
وهنا، لا يمكن، بأي حال، أن نلغي أنَّ مفتتح الآية يؤشر إلى “التَّوْرَاةَ” التي “فِيهَا هُدًى وَنُورٌ”، والتي “يَحْكُمُ بِهَا…”؛ وبالتالي، فإنَّ الجزء الأخير من الآية، المعطوف على ما سبقه، يُعبر عن “توصيف” لأولئك اليهود الذين تولوا عن تطبيق “حُكْمُ اللَّهِ”.
وإضافة إلى ملاحظة الربط الحاصل، في سياق الآية، في ما بين: “يَحْكُمُ بِهَا”، وبين “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ”؛ وأيضاً، في ما بين: “إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ”، وبين “بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ”.. يكفي أن نلاحظ: إن السياق العام الذي وردت فيه الآية، مع الآيات التي سبقتها [المائدة: 41، 42، 43]، ومع الآيات التي تليها [المائدة: 45 ـ 50]، هو سياق متصل، ومن غير الصحيح اجتزاؤه.
ولعل هذا يتأكد، إذا أكملنا الآية التالية ولم نجتزئها، ولم نفصلها عن سابقتها..
خطأ النهج التجزيئي
ـ يقول تعالى: “وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ” [المائدة: 45].
فمع ملاحظة الربط الحاصل فيما بين هذه الآية (لاحظ أنَّ الآية بدأت بحرف العطف “الواو”)، وبين الآية التي سبقتها؛ وإضافة، أيضًا، إلى ملاحظة أن الآية تتحدث عن “الأحكام” الواردة في “التوراة” (الهاء في “فيها”، تعود إلى التوراة).. يمكن الاطمئنان إلى القول: إنَّ ورود “الحكم” في هذه الآية، بعد التأكيد على أنَّه كان قد ورد في التوراة: “وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا…”، إنَّما هو نوع من الحسم النهائي للإشكالية. وبالتالي، “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ”.
ثم.. فإنَّ الاقتراب من آية: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ”، يؤكد أنَّ الأخذ بها على إطلاقها، واجتزاءها من السياق الواردة فيه، بغرض تعميم “حكم خاص” على الناس جميعًا، لهو خطأ فادح..
ـ يقول سبحانه: “وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ” [المائدة: 46 : 47].
هنا، فإنَّ ملاحظة الربط الحاصل فيما بين “وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ”، وبين “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ”؛ وأيضا، فيما بين “وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ”، وبين “بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ”، وبين “بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ”.. لنا أن نلاحظ: أنَّ السياق العام لهذه الآية هو خطاب عن “أَهْلُ الْإِنجِيلِ” حصرًا، بما يعني: أنَّه “حكم خاص”.. وبالتالي، “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ”.
ولعل هذا دليل جديد على الخطأ الجسيم الناتج عن اجتزاء آيات الله البينات، من أجل تعميم الأحكام “الخاصة” على الناس جميعا، بما فيهم من المسلمين.. ألم يكن من الأولى هنا أن يتم طرح التساؤل حول: لماذا خصت الآية “أهل الإنجيل” بهذا الحكم(؟!) رغم أننا نعلم أن الكتاب المقدس عند المسيحيين هو العهد القديم والعهد الجديد، الذي يحتوي على “الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ” [آل عمران: 48؛ المائدة: 110] بل ولماذا خصَّت الآية “الْإِنجِيلَ” تحديدا من بين هذه المركبات الأربعة(؟!).
ـ يقول سبحانه: “وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ • وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ…” [آل عمران: 48-49].. ويقول تعالى: “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ…” [المائدة: 110].
وأيًا يكن من أمر الإجابة على ذلك التساؤل.. فإنَّ ما نود التأكيد عليه، هو: إنَّ استعمال آيات التنزيل الحكيم ونهاياتها إطلاقًا على المسلمين، وغيرهم، مقطوعة من سياقها، خطأ فادح، هذا إن لم نقل: “جهل فادح”.. بل ووضع هذه المقتطفات “كافرون، ظالمون، فاسقون” شعارا سياسيا تحت اسم “حاكمية الله” خطأ يؤدي بصاحبه، وبالناس، إلى طريق مسدود. هذا إذا ما فهمنا السياق العام لهذه الآيات على النحو الذي حاوله من يريدون “تكفير” الناس.
الحاكمية.. شعار الخوارج
وبعد.. يمكن القول: إنَّ “خطأ الإسناد” يحصل أو: إنَّ “الإشكالية المفهومية” تبدأ، عندما يقع المزج والخلط بين ما لله سبحانه وتعالى من “حُكْم” متمثل في كتابه الكريم وآياته البينات، وبين ما للإنسان (الجماعة) من دور في التفسير والتقدير والتقرير الاجتهادي بما يحتمل الصواب والخطأ.
ومن ثم لنا أن نُؤكد إنَّ شعار “الحاكمية”، وإن كان قد ظهر في العصر الحديث على يد “المودودي” و”سيد قطب” إلا أنَّه لم يكن ـ في حقيقته ـ إبداعًا أصيلًا (حتى ولو كان خطأ)، لأي منهما.
فهذه الحاكمية، كـ”شعار”، وكـ”مصطلح”، وكـ”فكرة”، تعود ـ في أصولها ـ إلى صدر الإسلام.. إذ، حينذاك، تبدت الإشكالية نفسها عندما رفع قدماء “الخوارج” مقولة “لا حكم إلا لله”، وذلك احتجاجا على تحكيم “الحكمين” (الأشعري وابن العاص) في الظاهر، ورفضا لسلطة “الحاكمين” (علي ومعاوية) في الواقع.
الحاكمية، إذًا، كـ”شعار”، وكـ”مصطلح”، وكـ”فكرة”، تعود ـ في أصولها ـ إلى صدر الإسلام.. لقد كانت الإشكالية، آنذاك، تنطوي، كما تنطوي اليوم، على الخلط وعدم التمييز بين “الحكم” الذي هو لله سبحانه وتعالى، وبين “الأمر” (المصطلح الإسلامي للسياسة)، الذي هو من مسؤولية الإنسان والجماعة.
فهؤلاء (الخوارج) استعملوا الآية: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ”، بعد اجتزائها من السياق الذي وردت فيه، على “عموم ألفاظها”؛ ومن ثم، اتهموا المجتمع الإسلامي الأول بالكفر، بل وأحلوا دماء وأموال وأعراض المسلمين أخذًا بتفسيرهم، أي: على ما اعتبروه خطأ، أساسًا شرعيًا.. وفي ذلك، قال عبد الله بن عمر عنهم: “إنَّهم شرار الناس” و”إنَّهم انطلقوا إلى آيات… في غير المؤمنين فجعلوها في المؤمنين”.
بل، إنَّ الإمام علي (كرَّم الله وجهه)، كان قد أدرك بجلاء هذا اللبس في شعار الخوارج “لا حكم إلا لله”.. إذ قال حينذاك مقولته الشهيرة: “كلمة حق أريدَ بها باطل”… يتبع