رؤى

من ذاكرة المكان | دِمْيَاطُ.. مَدِيْنَةُ الصُّمُودِ الفَادِيَةُ (2-2)

تجتبي الأقدار المدن –أيضا– بأيام الحصار والشدة واجتياح الجيوش الغازية؛ فيكون لها من الصمود والبطولة والصبر، ما يضيء صفحات التاريخ بأبهى آيات الفخر والإجلال.. كسرت دِمياطُ حملة “جان دي بريين” بعد صمود بطولي، أمام حصار شرس استمر لستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما.. استطاع الفرنجة بعدها دخول المدينة خريف 1219م. ولم يرحم الغزاة البرابرةُ أهلَ دِمياطَ؛ فأعملوا في رقابهم السيف، وحولوا الجامع الكبير إلى كنيسة.. وانتشروا في أرجاء المدينة والقرى المحيطة بها؛ يجمعون كل ما يمكِّنهم من تحصين أسوار المدينة؛ لتكون لهم قاعدة ينطلقون منها لاحتلال القاهرة، كما حدثتهم أوهامهم.

ورغم ضعف وانحلال وتخاذل القيادة العربية متمثلة في الملك الكامل والأمراء الأيوبيين؛ إلا أنَّ صمود دِمياطَ، ألهب حماس المصريين، وأشعل جذوة الغضب في نفوسهم؛ فكان لهم النصر في النهاية؛ ليخرج الصليبيون من المدينة العظيمة مدحورين خائبين لا تعد خسائرهم ولا تُحصى بعد ثلاث سنين، وأربعة أشهر، وتسعة عشر يوما –هي عُمر الحملة الفاشلة.

لم ينس الفرنجة هزيمتهم في دِمياطَ، إذ كانت بمثابة انكسار كبير لمشروعهم التوسعي الذي يهدف للاستيلاء على مصر أولا، قبل محاولة استعادة بيت المقدس، وأراضي الشام جميعا؛ فكان تجهيزهم للحملة الصليبية السابعة غير مسبوق من حيث العدة والعتاد، إذ بلغ عدد سفن الحملة التي تحركت من الشواطئ الفرنسية صباح الخامس والعشرين من أغسطس سنة 1248م ما يربو على (1800) سفينة، تحمل نحوا من ثمانين ألف مقاتل، بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا.. الذي أفقدته قلة درايته بالملاحة، نحو سبعين سفينة جنحت إلى سواحل الشام.. بسبب إصراره على التوقف في قبرص؛ كما أتاحت فترة التوقف تلك، الفرصة لوصول أخبار الحملة إلى مصر، ليفقد الصليبيون عنصر المفاجأة أيضا.

دمياط

وصلت الأخبار للملك الصالح نجم الدين أيوب، فأسرع بالعودة إلى مصر، وعسكر في قرية “أشموم طناح” وأمر بتزويد دِمياطَ بالمؤن والعتاد، كما أمر قائد الجيش “فخر الدين ابن شيخ الشيوخ” بالتحرك بالجيش إلى دِمياطَ، والتمركز في البر الغربي، كما أمر بتجهيز الأسطول، استعدادا للمواجهة الوشيكة.

يصف “جوانفيل” مؤرخ الحملة وأحد قوادها، الرهبة التي تملَّكت الفرنسيين عند رؤية الجيش المصري فيقول :” وصل الملك أمام دمياط، ووجدنا هنا كل جيوش السلطان تقف على الشاطئ كتائب جميلة تسر الناظرين، ذلك أنَّ أسلحة السلطان قد صُنعت من ذهب، فكانت الشمس تشرق على هذه الأسلحة فتزيدها بريقا ولمعانا، وكانت الجلبة التي يأتون بصنوجهم وأبواقهم الشرقية تُدخل الرعب في أفئدة السامعين”.

استطاع الغزاة النزول إلى الشاطئ في اليوم التالي، وبدأت المناوشات بين الجيشين، كان من المتوقع في ظل تلك الظروف المواتية أن يكون النصر حليف المصريين؛ لكن حدث ما لا يمكن تفسيره إذ أصدر قائد الجيش المصري “ابن شيخ الشيوخ” أوامره بالانسحاب والتوجه إلى قرية” أشموم طناح” بعد أن وصلته أخبار أن “نجم الدين” قد مات، وترك الجيش دِمياطَ عزلاء في مواجهة الغزاة؛ فخرج أهلها منها هلعا لا يحملون من متاعهم وأموالهم شيئا، بعد أن رأوا انسحاب الجيش.. فكانت مأساة أهل دمياط النازحين منها لا نظير لها إذ هاجمهم قطاع الطرق وسلبوهم ما كان معهم.. حتى ما يرتدون من ثياب، وتركوهم في الطريق إلى القاهرة حُفاة عُراة جوعى لا معين لهم إلا الله.

جُن جنون “نجم الدين” بعد علمه بانسحاب الجيش، وأمر بإعدام خمسين من أمراء الجند الكنانية الموكلين بحماية المدينة، ولو كان الأمر يسمح لقطع رأس “ابن شيخ الشيوخ” الذي ترك جسر المدينة دون أن يهدمه، ليعبر عليه الفرنجة بيسر إلى الشرق؛ ليجدوا المدينة خالية، فيستولوا عليها دون عناء.

وكعادته تلكأ الملك الفرنسي في دمياط لنحو ستة أشهر، انتظارا لعودة السفن الجانحة، ما أعطى الفرصة للجيش المصري للاستعداد الكامل لخوض المعركة، بينما دب الخلاف بين أمراء الحملة حول وجهتها؛ أتكون إلى القاهرة أم إلى الإسكندرية.. وكان الانحياز إلى رأي أخو الملك بالتوجه نحو القاهرة أحد أهم أسباب فشل الحملة وانكسارها.. وكان موت الملك الصالح أحد أهم أسباب تقدم الحملة نحو المنصورة، حيث عسكر الجيش المصري، شرق النيل بينما عسكر الفرنجة في الغرب، وحاولوا بناء جسر ليعبروا عليه إلى الشرق لبدء القتال، لكن المصريين كانوا يهدمون في النهار، ما يبنيه الفرنجة في الليل.. بمقاليع الحجارة وكرات النار حتى بلغ الرعب بالغزاة مبلغه.. وكاد اليأس يقضي عليهم؛ لتلعب الخيانة دورها من جديد في تقويض نصر المصريين، بعد أن دل بعض البدو الغزاة على مخاضة استطاع الفرسان بقيادة “أرتوا” عبورها وفق الخطة الموضوعة التي كان هدفها مباغتة المصريين، حتى يتم بناء الجسر، لكن تهور “أرتوا” جعله يندفع بفرسانه إلى داخل مدينة المنصورة، وهناك كانت نهايته ومن معه من الفرسان على يد فرقة المماليك البحرية بقيادة “بيبرس”.

وكان لهذا الخبر أبلغ الأثر في نفوس الجند الغازية، فتركوا العمل بالجسر وسارعوا إلى معسكرهم، وعاد الأمر إلى حاله الأولى، إلى أن أفلح المصريون في الاستيلاء على سفن المؤن الآتية من دمياط، وحصار الفرنجة، ما دفع “لويس” إلى طلب الصلح، ولكن “توران شاه” الذي تولى بعد موت أبيه “نجم الدين” رفض.. فما كان من “لويس” إلا أن أمر قواته بالانسحاب إلى دمياط، بعد إضرام النار في السلاح والعتاد، ليلحق بهم الجيش المصري عند “فارسكور” ويعمل في رقابهم السيف، لتنتهي المعركة بهزيمة الفرنجة هزيمة ساحقة وأسر ملكهم وحمله إلى دار ابن لقمان بالمنصورة.

معركة المنصورة
معركة المنصورة

ويروى الدكتور جمال الدين الشيال ما حدث بعد ذلك للمدينة المنكوبة فيقول:” وتتابعت الحوادث وعرش مصر مثار نزاع عنيف بين الأيوبيين والمماليك، فخشي المماليك أن ينتهز الفرنج فرصة هذا النزاع فينقضُّوا على دمياط ثانية، فاتفقوا على تخريبها، وأرسلوا إليها فرقة من الحجَّارين والفَعَلة فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين الثامن عشر من  شعبان سنة ٦٤٨ حتى خُرِّبت كلها ومُحيت آثارها ولم يبقَ منها سوى الجامع، وهكذا كانت حملة “لويس” شؤما على دمياط؛ ففي أوائلها غادرها أهلوها جميعا، وفي أعقابها، وبعد نحو ستة أشهر من خروج الفرنسيين، هُدمت المدينة جميعها بأسوارها وقلاعها ومنازلها وقصورها، ولم يبقَ منها -كما يذكر المؤرخون- سوى جامعها وهو الجامع المُهدَّم القديم الذي يعرف حتى الآن في دمياط باسم جامع أبي المعاطي القديم أو جامع الفتح”.

قامت المدينة من جديد بعد أن أعاد السلطان الظاهر “بيبرس” بناءها وردم مدخلها عند البوغاز، وأعاد بناء الأسطول المصري لحمايتها، فازدهرت الحياة فيها وقصدها العلماء والمتصوفة للعيش فيها.. وظلت دمياط على هذه الحال من الازدهار والرفعة حتى صارت الميناء الأول، والمدينة الثانية من حيث الأهمية بعد القاهرة.. كان ذلك في القرن الخامس عشر الميلادي، حيث كانت السفن تغادر شواطئها للإغارة على جزر البحر المتوسط؛ تأمينا للشواطئ المصرية في عهد السلطان الأشرف “برسباي”.. وظلت دمياط في تلك المكانة الرفيعة حتى زمن الحملة الفرنسية، فكانت ثاني مدن القطر من حيث عدد السكان بعد القاهرة، وكان أهلها أربعة أضعاف أهل الإسكندرية في مطلع القرن التاسع عشر.

رسم للظاهر بيبرس
رسم للظاهر بيبرس

لاقت الحملة الفرنسية من دمياط وضواحيها وما جاورها من مراكز خاصَّةً حول بحيرة المنزلة؛ مقاومة شديدة.. ويذكر د. الشيال “أنَّ ثورة عارمة قامت في دمياط نفسها في أوائل سبتمبر سنة ١٧٩٨، واشترك فيها أسطول “حسن طوبار” الذى تحرَّك في بحيرة المنزلة؛ حتى وصل إلى “غيط النصارى” شرقي دمياط، وتقدَّم الأهلون ورجال الأسطول وكانوا جميعا مُسلَّحين بالبنادق والرماح نحو دمياط، وقتلوا الحراس الفرنسيين؛ فتقدَّم الجنرال “فيال” بقواته لمقاتلتهم، ففرَّ بعضهم وركبوا السفن عائدين، واتجه فريقٌ آخر إلى قرية “الشعراء” المجاورة لدمياط، واتخذوها معسكرا لهم، وفي نفس الوقت ثار أهالي عزبة البرج بحاميتهم الفرنسية وقتلوا رجالها، واستطاع  “فيال” أن يقتحم قرية الشعراء، ودخلها بجنده فنهبوها وأضرموا فيها النار، ولما سمع أهالي عزبة البرج أنَّ الفرنسيين نجحوا في إخماد ثورة دمياط تركوا قريتهم ورحلوا بأسُرهم في السفن إلى سواحل سوريا”.

وطلت المدينة العريقة على ما هي عليه من المكانة، حتى جاء “محمد علي” فأمر بشق ترعة المحمودية، ما أعطى للإسكندرية الفرصة، لتعود مجددا إلى صدارة المدن المصرية بعد القاهرة، ولتطال يد الإهمال دمياط التي جعلها الباشا منفى لأعدائه، وللجند الفارين، ولمن وقِّعت عليهم أحكاما قاسيا من أرباب الإجرام وأصحاب السوابق، حتى تحولت المدينة إلى مرتع للمجرمين، وكثرت فيها حوادث القتل والسرقة.. لكن دمياط عادت مجددا لتبني مجدها بصنائعها الفريدة وحرفها النادرة وأدبائها وشعرائها وعلمائها البارزين.. كما كان لها دور بارز في مناصرة العرابيين، إذ نزلها أحد أهم قادة الثورة، وهو الضابط “عبد العال حلمي” بفرقته، لتأمينها؛ فلقي من أهلها كل العون والمساعدة والمناصرة.. أما في الحرب مع الصهاينة، فقد كان للمدينة دور بالغ الأهمية إذ كانت نقطة الإمداد الثانية لجبهة القتال بعد العاصمة.. ويشهد على ذلك الطريق الحربي الذي شُق خصيصا لهذا الغرض شمال المدينة، ومازال إلى الآن من أهم شوارعها.. كما كان نيل دمياط أحد مناطق التدريب الهامة التي استخدمت في الاستعداد لعملية عبور قناة السويس.

الجزء الأول: من ذاكرة المكان | دِمْيَاطُ.. مَدِيْنَةُ الصُّمُودِ الفَادِيَةُ (1-2)

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock