في حديثنا حول دلالة مفردة “حكم” في التنزيل الحكيم، وصلنا إلى أنَّ المعنى المتضمن الذي جاء في الآيات التي وردت فيها ثلاثية: “الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ”؛ وجاء في الوقت نفسه في الآيات التي وردت فيها ثنائية: “حُكْمًا وَعِلْمًا”.. هو أبعد ما يكون عن المعنى السياسي الشائع حاليا لمصطلح “الحاكمية”.
خطأ الإسقاط السياسي
بل يمكن القول بأنَّ “الْحِكْمَةَ” قد احتفظت –في مجمل الخطاب القرآني– بمعنى الإصابة في القول والعمل.. وذلك كما في قوله تعالى: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ” [البقرة: 269].
أيضا، فقد احتفظ “الْحُكْمَ” بمعنى: “المقدرة على التمييز بين الحق والباطل”.. كما في قوله سبحانه: “يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا” [مريم: 12].. وفي قوله تعالى: “وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ” [الرعد: 37].
ولعل هاتين الآيتين تأتيان ضمن الأدلة الدامغة على ابتعاد مفهوم “الْحُكْم” في كتاب الله الكريم، عن المعنى الشائع (المعنى السياسي).
فالآية الأولى، تؤشر إلى أنَّه ليس معقولا ولا واردا تولية السلطة السياسية لـ”يَحْيَى” (عليه السلام) وهو صبي. أما الآية الثانية فتدل –كما هو مجمع عليه إسلاميا– على أنَّ وصف “كتاب الله” بكونه “حُكْمًا عَرَبِيًّا” لا يعني أنَّه تعبير عن إقامة سلطة سياسية عربية، ولم يأت ليمثل حكما (بالمعنى السياسي السلطوي) لقوم دون قوم؛ وهو ما يتأكد عبر السياق الذي وردت فيه الآيتان التاليتان:
يقول سبحانه وتعالى: “وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ • وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ” [الرعد: 36 – 37].
فـ “الحُكم” في كتاب الله الكريم يأتي ليتمايز عن كل ما من شأنه أن يُشير إلى المسألة السياسية؛ وهو ما يبدو بوضوح إذا لاحظنا هذا التمايز، في نسق النص القرآني، فيما بين “الْحُكْم” و”الْمُلْك” من جهة، و”الْحُكْم” و”الْأَمْر” من جهة أخرى.
تمايز الحكم والملك
من الجهة الأولى، يمكن ملاحظة إنَّ كتاب الله عندما يشير إلى معنى السلطة السياسية، التي كانت لبعض الأنبياء، وغيرهم من الشخصيات التاريخية، فإنَّه لا يستخدم مصطلح الحكم، وإنَّما يستخدم المصطلح العربي، المتعارف عليه ـ حينذاك ـ بشأن سياسة الدول، وهو “الْمُلْك”.
ففي قوله سبحانه وتعالى: “… وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ …” [البقرة: 251]؛ يبدو التمايز واضحًا عبر الحركة العطفية بين “الْمُلْك” و”الْحِكْمَةَ” (و”العلم”.. أيضًا).
وفي قوله سبحانه: “أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا” [النساء: 54]؛ يبدو أن ورود لفظتي “آتَيْنَا”، و”َآتَيْنَاهُمْ”، في حركة عطفية، للجملتين، كنوع من التأكيد على “التغاير”، بل التمايز، بين إتيان آل إبراهيم (عليه السلام)، “مُلْكًا عَظِيمًا“، وبين إتيانهم “الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ“؛ هذا رغم أن كلًا منهما هو من عند الله.
وفي قوله تعالى: “إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ” [النمل: 23]؛ يبدو –بشكل قاطع–التمايز المشار إليه؛ إذ أنّ الله سبحانه وتعالى قال “تَمْلِكُهُمْ“، ولم يقل “تحكمهم” (لاحظ، كذلك، دلالة الترابط بين “امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ“، وبين “وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ“).
وفي السياق نفسه، سياق التمايز الواضح بين الحكم والملك في آيات الله البينات، يبدو الاستخدام القرآني لمصطلح “الْمُلْك” عند الحديث عن “السلطة” بمعناها السياسي.. ففي قوله سبحانه: “رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ” [يوسف: 101]؛ يبدو التمايز بين “الْمُلْكِ” الذي “آتاه” الله ليوسف (عليه السلام)، وبين “تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ” الذي “علمه” الله إياه.
ولنا أن نلاحظ، هنا، أن “مِنْ” حرف تبعيض، في قوله: “مِنْ الْمُلْك”، وفي قوله: “مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ”؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى قد “أتى” يوسف عليه السلام جزءًا من ـ أو: بعض ـ الملك، وليس كله؛ وعلمه جزءًا من ـ أو: بعض ـ تأويل الأحاديث، وليس كله.
وفي قوله تعالى: “وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ” [الزخرف: 51]؛ يبدو بوضوح، عبر مقولة فرعون لقومه: “أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ“، أنَّ ثمة تمايزًا بين الملك والحكم؛ ولو لم يكن ذلك كذلك، فلماذا لم يقل: “حكم مصر”، بدلًا من “ملك مصر”(؟!).
المصطلح السياسي “الأمر”
أما من الجهة الأخرى، فيمكن ملاحظة إنَّ كتاب الله الكريم عندما يشير إلى أصحاب السلطة والقرار السياسي النافذ في المجتمع، لا يستخدم مصطلح الحكم وإنَّما يستخدم المصطلح الدال على الشأن السياسي من آراء وميول ومصالح، أي: مصطلح “الْأَمْر”..
ففي قوله سبحانه: “وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ …” [آل عمران: 152] تبدو إشارة ذات دلالة على أنَّ التنازع، أو بالأحرى تعارض الآراء وتصادمها، يكون في “الْأَمْر”، وليس في “الحكم”.. وهو ما يتأكد في قوله تعالى: “… إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا …” [الكهف: 21].. وفي قوله سبحانه: “فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى” [طه: 62].
أما في قوله تعالى: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ” [هود: 96 ـ 97]؛ يبدو الفارق دقيقًا بين كل من “الْمُلْك” و”الْأَمْر”، وبين “الْحُكْمَ”.. إذ عندما تحدث كتاب الله عن فرعون، من حيث السلطة في ذاتها، ذكر الـ”مُلْكُ” (“قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ …” [الزخرف: 51]).. وعندما تحدث عنه، من حيث القرار الصادر عن تلك السلطة، أو: الشأن الناتج عنها، ذكر الـ”أَمْرُ” (“فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ …” [هود: 97]).
وقد وردت لفظة “أَمْرُ” مرتين، في الآية، كنوع من التأكيد على أن نفي صفة “الرشد” إنَّما يعود على “أمر فرعون”، وليس فرعون ذاته.. وفي الحالتين، لم تتحدث الآيتين عن “الْحُكْم”، ولم تأت على ذكره من قريب أو من بعيد.
ومن ثم، لنا أن نتأمل كيف جاء التلازم بين الشورى والأمر، بوضوح.. كما في قوله سبحانه: “… وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ…” [آل عمران: 159].. وكما في قوله تعالى: “… وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ…” [الشورى: 38]..
وهو ما يوضح أنَّ الشورى واردة في “الْأَمْر”، لا في “الْحُكْم”، من حيث طبيعة الأول السياسية، وتمحوره حول المصلحة المجتمعية العامة (لاحظ: أنَّ الشورى وردت كـ”فعل أمر” في الآية الأولى، وكـ”خبر” لمبتدأ في الآية الثانية).
ومن ثم لنا أن ندرك دلالة عدم ورود ذكر الحكم، أو أي من مشتقاته في الآيات التي تُعبر عن “المداولة السياسية” التي دارت بين ملكة سبأ وقومها.. كما في قوله تعالى: “قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ • قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ • قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ” [النمل: 32 ـ 34].
ولذا، كان استخدام كتاب الله لمصطلح “الْأَمْر” وليس لمصطلح “الْحُكْم”.. ولنا هنا أن نلاحظ: كيف وردت لفظة “أمر” أربع مرات في هذه الآيات [32 – 33]؛ وكذا اختلاف دلالة كل منها تبعا للموضع الذي وردت فيه. كما لنا أن نلاحظ، كذلك كيف وردت لفظة “الْمُلُوكَ”، في هذه الآيات [النمل: 34]، على لسان “ملكة سبأ”، ولم ترد كلمة “الحكام”.
ولعل هذا ما يؤكد، من جديد، على الفارق الدقيق بين الحكم وبين كل من الملك والأمر.. إذ مثلما كان الحال في حديث كتاب الله عن فرعون، من حيث الفارق بين “الْمُلْك” و”الْأَمْر”؛ جاء الحديث عن “المَلِكة”.
فعندما تحدث الكتاب عنها، من حيث السلطة في ذاتها، ذكر “الْمُلْك” (“إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ…” [النمل: 23]).. وعندما تحدَّث عنها، من حيث القرار الصادر عن تلك السلطة، ذكر “الْأَمْر” (“…أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا… وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ” [النمل: 32 ـ 33])… يتبع