إذا كان التلازم بين الحكم وبين القضاء –كفصل بين طرفين– يبدو واضحا عبر تواتر ورود صيغة “أحكم بينهم” وليس صيغة أحكمهم، في آيات التنزيل الحكيم؛ لانتفاء معنى التحكم في مضمونه.. فإنَّ ورود هذه الصيغة في صورة فعل أمر مشروط؛ بشروط ثلاثة هي: الحق والعدل والقسط، كما وصلنا في حديثنا السابق، إنَّما يتكامل مع شرط “بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ”..
شرط “بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ”
يتبدى ذلك الشرط عبر قوله سبحانه: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ …” [المائدة: 48].. وعبر قوله تعالى في الآية التالية مباشرة: “وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ…” [المائدة: 49].
وهنا نلاحظ أنَّ الشرط لـ الحكم بين جاء في الآيتين بنفس الألفاظ؛ بل وجاء الشرط متبوعا بشرط آخر، هو كذلك واحد. فتكرار الشرط “احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ” والشرط المعطوف عليه والمكمل له “وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ” هو ورود ذو دلالة واضحة للتأكيد أنَّ الحكم هو “بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ” وللتأكيد أنَّ عدم اتباع الهوى؛ ليس شرطا عاما، وإنَّما هو شرطٌ محددٌ بعدم اتباع “أَهْوَاءَهُمْ” وهو تحديدٌ يدل في ما يدل عليه على أنَّ الحكم –في هذا الإطار– خاص بآيات الأحكام والعقوبات، أو قل آيات الحدود.. لاحظ السياق الذي يضم هاتين الآيتين مع ما يسبقهما ويليهما من آيات أي الآيات [41 ـ 50] من سورة المائدة).
ولعل ذلك ما يؤكد –من جديد– على أنَّ مصطلح الحكم، وجميع مشتقاته في كتاب الله الكريم، لا يحمل أي معنى من معاني الحكم السياسي الذي شاع في عصرنا الراهن؛ بل جاء ليتمحور –في أهم معانيه– حول الإصابة في القول والعمل أي المقدرة على التمييز ما بين الصواب والخطأ.
هذا وإن كان يدل على شيء فإنَّما يدل على الفارق الدقيق، والمهم بين الحكم أو التحكيم القضائي كما ورد في آيات التنزيل الحكيم وبين الأمر أو القرار السياسي.. بل يدل على أنَّ الخلط الذي ما يزال قائما بينهما واتساع أثره في عصرنا، هو خلطٌ يعود إلى عدم التدقيق في المعاني الأصلية للمصطلحات المحورية التي يدور حولها النقاش في هذه المسائل.
والجدير بالملاحظة بشأن الفوارق اللغوية بين الماضي والواقع الراهن أنَّ كلمة حاكم وجمعها حُكَّام، لم تطلق في كتاب الله وفي الحديث النبوي وفي صدر الإسلام بعامة على القائم بالأمر السياسي (الخليفة أو الملك أو السلطان أو الأمير) كما نطلقها اليوم على حكام الدول.. وإنَّما اختصت بالقاضي والقضاة، باعتبار أنَّ المصدر “حَكَمَ” كما سبق وأن أشرنا يعني العلم والفقه والقضاء؛ وكما جاء في لسان العرب، فإنَّ الحكم مصدر قولك حكم بينهم، أي قضى وإنَّ الحاكم القاضي.
دلالة لفظة “حُكَّامْ“
وفي إطار التمييز الذي نحاوله هنا، فإنَّ ما ينبغي التأكيد عليه ويتطلب التمييز الدقيق في آن، أنَّ هناك فارقًا جوهريا عندما يتعلق الأمر بحكم إلهي؛ فهنا تندمج في الحكم صفة المعرفة الحقَّة والتقدير الصائب والقضاء العادل والتطبيق الناجز معا بلا تفريق.. أمَّا عندما يتعلق الحكم باجتهادات الإنسان، فذلك ما يتطلب التمييز بين الحكم وكيفية تطبيقه.
ولكن.. قد يقول قائل: إن لفظة “الحكام” قد وردت في آيات التنزيل الحكيم، وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ” [البقرة: 188].. والرد هنا أنَّ لفظة “الْحُكَّام” في هذه الآية، إنَّما تعود إلى مفردها المعنوي “القاضي”.. والدليل إنَّ التفسير اللغوي النصي لهذه الآية، كما أورده ابن كثير “أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ولا يحق لك باطلا، وإنَّما يقضي القاضي بنحو ما يرى، وتشهد به الشهود.. والقاضي بشر يخطئ ويصيب”.. وكما أورده القرطبي “من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل؛ فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي”.. أما الرازي، فقد أورد تفسيره لهذه الآية تحت عنوان “حكم الأموال”. ولعل مما له دلالة، في هذا الشأن، هو ورود مصطلح “خَيْرُ الْحَاكِمِينَ”، و”أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ”، منسوب إلى الله سبحانه وتعالى.
ـ فقد ورد المصطلح الأول، “خَيْرُ الْحَاكِمِينَ” مرات ثلاث؛ في قوله سبحانه “فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ” [الأعراف: 87] وفي قوله تعالى: “وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ” [يونس: 109] وفي قوله “فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ” [يوسف: 80].
أما المصطلح الآخر “أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ” فقد ورد مرتين في قوله سبحانه “رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ” [هود: 45] وفي قوله تعالى: “فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ” [التين: 8].
هذا، وإن كان يؤكد على أنَّ مصطلح “الحكم” وجميع مشتقاته في كتاب الله الكريم، لا يحمل أي معنى من معاني “الحكم السياسي” كما هو شائع الآن.. بيد أنَّه لا يعني، ولا يمكن أن يعني أنَّ كتاب الله لا يتضمن مفهوما لهذا الشائع، ونظاما له كما ذهب “الشيخ/ القاضي” علي عبد الرازق –ومن هُم في رأيه– في كتابه “الإسلام وأصول الحكم.. بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، 1925” إذ إنَّ كتاب الله، قد استخدم كما أسلفنا مصطلحا آخر لهذا المفهوم السياسي، وهو مصطلح “الأمر”.
بهذا.. يكون استعمال مصطلح “الحكم” بمعنى “الحكم السياسي” وإسقاط هذا الأخير على مصطلح “الحكم” في التنزيل الحكيم يمكن أن يؤدي أو بالأصح هو يؤدي، إلى تغيير في معاني الألفاظ والمصطلحات الواردة في آيات الله البينات؛ بل وإلى تبديل لمقاصد التنزيل الحكيم.
نقول “هو يؤدي” لأنَّ تطبيق القاعدة إياها قاعدة “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” ما يزال يتم –في غالب الأحيان– من خلال علاقة “المساواة” الضمنية بين “عموم اللفظ” و”ظاهر اللفظ” وليس من خلال “الدورة الدلالية لعموم اللفظ في النسق القرآني”.
لا.. بل إنَّ علاقة “المساواة” هذه بين عموم اللفظ وظاهره، لن تكون لها من نتيجة سوى ذلك “الالتباس الدلالي” لمفهوم “الحكم” بين أصله “اللغوي، والقرآني” وبين معناه “السياسي” الشائع في العصر الحديث.
إنَّه ذلك الالتباس الذي أدى إلى اشتقاق وشيوع مصطلح “الحاكمية” من “حكم” و”حاكم”.. ليؤدي إلى التباس جديد أوسع من سابقه، في فهم المعنى الدقيق المقصود بهذه الصياغة الاصطلاحية المحدثة (الحاكمية) وفي فهم المصدر الأصلي الذي اشتقت منه…
يتبع.