ثقافة

“مسرحة” التراث…أعمال رائدة

«عايزين مسرح مصري، مسرح ابن بلد، فيه ريحة الطعمية والملوخية، مسرح نتكلَّم عليه باللُغة التي يفهمها الفلَّاح والعامل ورجل الشارع».

بهذه الكلمات٫ لخص الفنان المصري نجيب الريحاني لرفيق دربه الكاتب والشاعر بديع خيري رؤيته لما ينبغي أن يكون عليه المسرح في بلادنا: مسرح خاص بنا٫ مستمد من تراثنا٫ بعيداً عن المؤثرات الأجنبية وفي مقدمتها الاقتباس٫  الذي وقع فيه  الريحاني في بداية مسيرته الفنية حين اقتبس من المسرح الفرنسي ثم عدل عن ذلك عندما  أدرك ضرورة أن يكون “مسرحنا” مسرحاً مصرياً خالصاً وبدأ يبحث مع خيري عن نصوص تلغي الفجوة بين المبدع المسرحي وبين الجمهور المحلي.

بين الماضي والحاضر

تحقيق الصلة المباشرة والتفاعل الحي بين المبدع والجمهور ، ووصْل المتفرج بماضيه  واسقاطه على حاضره  وبيئته .. هذا السبب تحديداً هو ما دفع الريحاني لأن يلجأ الى التراث ووجد ضالته في عصر قراقوش الذي حوله إلى نص مسرحي بعنوان “حكم قراقوش”.

جاء النص مواتياً للغاية بالنسبة  للفترة التي قُدم فيها وتحديداً عام ١٩٣٥ حيث عانى المصريون من طغيان رئيس الوزراء إسماعيل صدقي الذي ألغى الدستور وابتدع دستوراً جديداً يُطلِق يد الملك٫ فكان هذا النص الذي يدين “حاكم الصدفة” من خلال شخصية بندق الذي يحلم بأن يحل محل السلطان لأسبوع واحد متصوراً أنه يستطيع تغيير أوضاع البلاد والعباد في هذا الأسبوع ، وبالفعل يوافق الحاكم قراقوش على أن يحل بندق محله لمدة أسبوع لتكون النتيجة هي تدهور الأوضاع الى الأسوأ.

مشهد من مسرحية حكم قراقوش
مشهد من مسرحية حكم قراقوش

ويبدو أن مبدعي المسرح العربي في أعقاب الريحاني وجدوا في التراث مَعيناً لا ينضب من الأفكار والموضوعات الصالحة لزمانهم أيضاً٫ فأخذوا ينهلون منه ويقدمونه في قوالب مسرحية مختلفة ومتعددة.

فاقتبس الكاتب المسرحي المخضرم ألفريد فرج في مسرحيات من تأليفه مثل “الشخص” شخصية الراوي التراثية التي تشرح الأحداث للمتفرج وهو ذات الأسلوب الذي انتهجه الكاتب يسري الجندي في أكثر من عمل مسرحي أبدعه مثل “رابعة العدوية” عام ١٩٨٠ والتي جسدها عدد من النجوم  في مقدمتهم  سميحة أيوب والراحل يوسف شعبان وغيرهم٫ ويعود الراوي في عمل آخر ليسري الجندي هو “علي الزيبق” حيث يفتتح العرض على الطريقة التراثية على لسان الرواة الذين يفيضون في ذكر مناقب البطل الشعبي قبل أن يظهر على خشبة المسرح.

وعلى طريقة الراوي٫ يستخدم الكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس “الحكواتي” الذي تعرفه أحياء دمشق وأزقتها التاريخية في مسرحيته “مغامرة رأس المملوك جابر”  ،والحكواتي لا يسرد الحكاية فحسب بل هو ايضاً حلقة الوصل بين الماضي والحاضر٫ وهو كما يؤكد لجمهوره من المستمعين في نهاية العرض يدرك تماماً أن تغيير الواقع ليس رهناً بما يرويه وانما بإرادة هذا الجمهور.

وفي الكويت٫ يقتبس المخرج المسرحي صقر رشود أشكالا تراثية يدمجها دمجاً مع النص المكتوب٫ كما في عرض “علي جناح التبريزي وتابعه قُفه” المقتبس عن نص بنفس الاسم للكاتب الفريد فرج٫ حيث يفتتح رشود العرض باستعراضات من “تراث البحر” أو تراث صيادي اللؤلؤ المنتشر في منطقة الخليج العربي وهو ما يستخدمه أيضاً في مشهد العُرس وأغنية النهاية.

الخيط الرفيع

أما في المغرب٫ فثمة تجربة  مهمة للفنان الراحل الطيب الصديقي٫ الكاتب والممثل والمخرج٫ في مسرحة التراث حيث سعى الصديقي من خلال فرقة “مسرح الناس” إلى إعادة إحياء ما يُعرف باسم “مسرح البساط”.

ومسرح البساط – وفقاً للنقاد – هو مسرح كان يُقدم في بلاطات الحكام وفي منازل الأعيان في بعض المدن المغربية وكان يحتوي على ديكور بسيط للغاية ويستمد موضوعه من القصص الشفوية المتداولة المتوارثة بين العامة لاسيما ذات الطابع الفكاهي منها.

قدم الصديقي مسرح البساط في أكثر من عمل من بينها مسرحية “الفيل والسراويل” التي كتب لها  الصديقي النص وأخرجها واعتمد فيها إلى حد كبير على القصص التراثية ذات الطابع الاجتماعي والتي لا تخلو من الطرافة والسخرية٫ والقصص وإن بدت متفرقة فإن خيطاً رفيعاً يجمع بينها وهو العلاقة بين الحاكم والمحكوم كما في قصة القاضي (قام بدوره الصديقي) والفقير الذي يتشاءم القاضي من قبح وجهه ثم يكتشف أنه أكثر حكمة منه.

ويعود الصديقي إلى ما أسماه البساط الترفيهي في أعمال أخرى مثل “ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب” وهي مسرحية تتعرض لحياة وأزجال شاعر شعبي هو الشيخ عبد الرحمن المجذوب (1503- 1569) ووظف فيها الصديقي ساحة جامع الفنا في مدينة مراكش لتكون مسرحاً للعرض وحيث قدم  للمشاهد كافة أشكال “الفرجة” الشعبية من راو يسرد الأحداث ومطربين وراقصين ومشعوذين يعبرون باللحن والحركة عما يقوله الراوي.

ويمكن القول إن فكرة مسرحة التراث وصلت حتى مسرح الأطفال كما في عرض مسرح العرائس الشهير “الليلة الكبيرة” الذي صاغ أشعارها  صلاح جاهين ولحن أغانيها  سيد مكاوي وأخرجها فنان العرائس صلاح السقا٫ حيث اختار مبدعو هذا العرض الذي بات أحد كلاسيكيات مسرح الطفل مولد أحد الأولياء كإطار لمجموعة من الاستعراضات والأغاني التي تلخص كافة مظاهر المولد من ألعاب وإنشاد ورقصات وغير ذلك.

وأغلب ظني أن صناع العمل أرادوا تكريس هذا التراث في ذهن الطفل العربي كما سعى المبدعون الآخرون المذكورون الى تكريسه في ذهن البالغين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock