ثقافة

حول مفهوم القيم وفلسفاتها

تقدر القيمة في المبحث الفلسفي وفق معايير محددة؛ كالدوام والاستقامة والثبات والكمال؛ كما تتجلى الدلالة الأولية للكلمة في تقدير الإنسان لقيمة ما وزيادة ذلك أو نقصانه (قيمة ذاتية) أو الدلالة على ما يستحق هذا التقدير على نحو يزيد أو ينقص (قيمة موضوعية).

وتصنف القيم إلى خارجية تختلف باختلاف الفئات الثقافية، وداخلية (باطنية) وهي موضوعية مطلقة، لا يحدها زمان ولا مكان تُلتمس لذاتها وتُطلب كفاية، وتعتبر القيم ذاتية حين تكون محل اختلاف بين الأفراد.

يقول “سبينوزا”:”نحن لا نرغب في شيء لأنه قيّم، بل إنه قيم لأننا نرغب فيه” لذلك فالقيم الذاتية هي قيم نسبية؛ لأن قياسها يخضع لطريقة الإنسان في التفكير، أو رغباته وأحاسيسه، وبالقطع فإن هذا يفضي إلى عدم وجود حق بالذات أو خير بالذات أو جمال بالذات.

“وعلى هذا انصرف الباحثون إلى دراسة القيم باعتبار علاقاتها بالحاجات الإنسانية، وبالميول والرغبات، وبالأمنيات البشرية كافة، سواء اتصلت كلها بالحياة الاقتصادية أو العاطفية أو العقلية أو الأخلاقية أو الروحية أو السياسية أو التربوية أو الفنية”.

لوحة سبينوزا
سبينوزا

ويعتبر العالم الألماني “لوتسِه” هو أول من استخدم لفظ القيمة، وزامنه اللاهوتي “ريتشل”.. وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكذلك الاقتصادي “مانغر” لكن الفضل في ذيوع المصطلح بين المثقفين وأوساط المتعلمين يُعزى للفيلسوف الألماني “نيتشه” الذي “اعتنق فلسفة قيمية تدعو إلى القسوة بدلا من الإحسان، ورفض اتصاف القيم الأخلاقية بالصفة المطلقة، وزعزعَ يقين من سبقوه في مضمار القيم، إذ رفض القيم الذائعة المفروضة على الإنسان من الخارج، فهدم القيم القديمة، وأعلن موت الإله (بالمفهوم التقليدي) وزعم أن ” الإنسان الأعلى”  هو الإله الجديد، وهو هادم وعازم ألا يكون رحيما”!

عقب ذلك اجتذبت فلسفة القيم العلماء من شتى المجالات؛ ليستفيدوا منها ويثروها، فكان ممن أسهموا في ذلك عالم اللاهوت “لوسكي” والفيزيائي “كولر” والمنطقي “لالاند والأخلاقي “شيلر” وكذلك الفيلسوف “بولان” ما جعل لمعنى القيمة دلالات متعددة مجردة ومعنوية، خروجا عن الدلالة المشخصة؛ كذلك امتداده لميادين أخرى كعلم النفس والفن إضافة للمجالات السابق ذكرها.

نيتشه
نيتشه

وكان تصنيف “إرنست لوسين” للقيم من أهم التصنيفات وأكثرها قبولا، وقد أسماه بـ”أمهات القيم الإشعاعية” إذ رأى أن القيم كلها تصدر عن الفكر أو الروح صدور الأشعة عن بؤرة تبدع الحرارة والنور، قد حددها في أربعة أقسام هي: قيمة التحديد الطبيعي أي الحقيقة. وهي قيمة تتميز بها التحديدات المعطاة على أنَّها تسبق الفعل، وتتميز من التحديدات الخاطئة أو الموهومة أو الخيالية، أي من التحديدات الذاتية فقط. وأساس الحقيقة أنَّها قيمة المعرفة، وهي الأساس الاجتماعي الأعلى. وقيمة التحديد الصميمي أي الجمال، وهي قيمة ترى أنَّ الطبيعة قوام التحديدات المعطاة، وقيمة التحديد المثالي أي الأخلاق: فالقيمة الأخلاقية قيمة الشرع، وهي القيمة التي تصبح عند تحققها في الواقع فضيلة. وتعرَّف أنَّها ما ينبغي فعله، والقيمة الأخلاقية هي قيمة العمل، وهي قيمة الإرادة، كما أن الحقيقة قيمة المعرفة، والجمال قيمة التخيل، والحب قيمة الحب نفسه، وهو قيمة الطاقة الروحية الكامنة في الحب أو الدين وتتناول ما يجب أن يكون، وترجع إلى الطاقة النفسية ذاتها، وتجعل هذه الطاقة روحية بدلا من أن تظل طاقة ذهنية، ومن مهمتها خلق العواطف واتحاد القلوب فيما يجاوز أي عمل من الأعمال، وهذه القيمة –قيمة الحب وقيمة الدين– هي أكثر القيم اتصافا بالصفة الصحيحة. إنها كالفضيلة تتطلع إلى المستقبل، ولكنها لا تستهدف تناول الموضوع، بل إنجابه، بمعنى أن الإنجاب هو إيقاظ الروح. وما يتصل بمفهوم القيمة أو يقرب منه ويشاكله مفهوم المعيار، وهو القدرة على تقدير شيء ما وفق مجموعة من المقاييس الخاصة تتوفر على الشمولية بقدر الإمكان، وكلما تعددت المعايير وتنوعت، كلما كان تقديرنا أقرب إلى الصواب. والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا العرض، هل كان لدينا ثمة شك أنَّ تقلص الحقائق وانزوائها على الدوام في مجتمعنا العربي كان يعني دومًا حضورًا طاغيًا للوهم الذي لا يمكن أن يكوِّن واقعًا مقبولا لقيم تستطيع أن تؤسس لمجتمع يجهد للحفاظ على كيانه المحاط بكل أسباب السقوط؟ وكيف استطعنا اصطناع الدهشة عندما اخترنا  –بمحض إرادتنا– أن نفسح المجال للقبح؛ ليصبح سيد الموقف؛ متسائلين: أين اختفت قيم الجمال؟! وكل ذلك يتصل بمفهوم هو الأقرب لمفهوم القيمة؛ ألا وهو المعيار الذي يرى “لالاند” أن له ميزة تتجلى في جميع معاني المثل الأعلى.. لذلك فلا يمكن أن تكون القيم حادثة أو ناتجة عن تأزُّمات الواقع؛ ولذلك فهي لا تجعل المنفعة المباشرة أساسا للتقويم.

ويرى كثيرون أن التناول الفلسفي الغربي لموضوع القيم قد انتهى إلى فوضى عارمة وتخبط لا يخفى على أحد ومتاهة يصعب الخروج منها، فلقد أدى الشطط في التناول الفلسفي الغربي -نيتشه مثالا- إلى تفتيت القيم وحصرها بين النزعتين التاريخية والاجتماعية، إذ تُرجع المذاهب النفعية معيارية الفعل الأخلاقي إلى الميول والرغبات، وتجعل من المردود العملي مقياسا للخير والشر، وهي لذلك قيم شديدة النسبية ولا يمكن أن تتسم بالثبات، وربما كانت هذه الوجهة قديمة جدا إذ كان “أفلاطون” يرى أن الوجود الإنساني هو ظِل لعالم المُثل؛ لذلك فهو وجود ناقص.

أفلاطون
أفلاطون

وتتماس فلسفة القيم مع الدين وفقا للقيمة الرابعة عند “لوسين” ففي الديانات الإبراهيمية ذات الأصل الإلهي (غير الإنساني) يوجد قاسم مشترك بينها وغيرها يتمثل في معنى المطلق، ويتميز بمفهوم عام هو مفهوم المقدس، أو القيمة الأولى، مصدر سائر القيم، وهذه القيم جميعها تتميز من مصدرها الأسمى بصفة واحدة هي صفة العادي. وهو بحسب تعريف “التهانوي”: “وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل”. وعلى هذا الأساس وضعت القيم الإسلامية وفق خصائص شديدة التميز تنطلق من كونية تلك القيم، ومراعاتها لتوازن احتياجات الإنسان المادية والروحية.

أما من تناول مفهوم القيم من مفكري الإسلام، فيؤكد على ارتباط القيم الأخلاقية بالطبيعة البشرية، وهذا الارتباط لا يكون وفقا للميول والرغبات والغرائز؛ لأن الطبيعة البشرية –في نظر الإسلام– طبيعة ذات أبعاد متعددة، وذات جوانب ترتبط بعلاقة تكاملية؛ لذلك فالواقع من المنظور القيمي الإسلامي لا يصلح بحال لأن يكون مصدرا للقيم الأخلاقية.

وتمتاز منظومة القيم الإسلامية بعدة خصائص تجعلها أقرب إلى التفرد، فهي تجمع في نسق واحد كل ما تشتمل عليه من عقائد وعبادات ومعاملات وتشريعات وتوجيهات وأخلاق وآداب عامة، وهي–في ذلك– ترمي إلى تحقيق الصلة القوية بين العبادة والسلوك، وبين العقيدة والعمل وبين الدنيا والآخرة، فالقيم –في نظر الإسلام– ظاهرة كونية لا يمكن نفيها.

إرنست لوسين
إرنست لوسين

إن الأساس في ذلك يعود إلى الأصل الإلهي الذي يهيمن على الفعل الإنساني في مختلف سياقاته، ويحدد له الأوامر والنواهي ويمنحه حرية الاختيار وفق ضوابط صارمة؛ لإيجاد تلك الحالة من التوازن والتي هي السبيل لتحقيق الغاية كما في قوله تعالى: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” القصص(77).

ومن المفترض أن تلك الخصائص المميزة للقيم الإسلامية ذات طابع شمولي، يهدف إلى تلبية متطلبات المسلم وفق رؤية واقعية ذات إطار يفرض الخضوع التام والتسليم الكامل للقوة العلوية المانحة والقائمة على كل نفس بما كسبت، والضامنة للنجاة وفق شروطها الخاصة” قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” الأنعام(162) وتنطلق من موقف إيجابي تجاه الكون والإنسان بصفة عامة، فهو مستحق للتكريم بوصفه إنسانا فقط، بينما تتوارى التباينات الحادثة ولا تستدعى إلا في إطار التنوع الباعث على التعارف والتفاعل الإيجابي، تحقيقا لروح السلام التي يجب أن تتوفر من أجل أن يؤدي الإنسان رسالته على الأرض، كما أن حضور الجانب الصراعي ينطوي على الكثير من التبريرات التي تعود إلى وجود طبيعة بشرية لم يطالها التهذيب!

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock