– مقال نادر بقلم كوكب الشرق “أم كلثوم” عن “جمال عبد الناصر” نشرته مجلة الهلال في عددها التذكاري الصادر بعد رحيل الرئيس “جمال عبد الناصر” في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠.
– نص المقال:
كيف عرفت عبد الناصر؟
بقلم: أمُّ كلثوم
“لا أزال أذكر أجمل الذكر، المرة الأولى التي رأيت فيها جمال عبد الناصر. كان ذلك في عام المأساة الكبرى في تاريخ الأمة العربية “مأساة فلسطين” سنة ١٩٤٨. حين هبت مصر للذود عن الأرض السليبة. وذهب الجيش إلى هناك وكان على أبواب النصر لولا أن دبرت له الدول الكبرى المؤامرة التي انتهت بخدعة الهدنة الأولى ثم الثانية. فانقلب النصر إلى هزيمة وحوصر أبناؤنا في الفالوجة حصارا قاسيا مريرا. أبدوا خلاله ألوانا أسطورية من البطولات في الصمود في وجه العدو. كانت مثار إعجاب العالم.
كنت أتتبع أنباء إخوتي وأبنائي أبطال الفالوجة يوما بيوم وساعة بساعة. وقلبي معهم يخفق لهم في كل لحظة، ويضرع إلى الله أن يؤيدهم في صمودهم العظيم إلى أن يردهم إلينا سالمين. واستجاب الله الدعاء. وعاد أبطال الفالوجة إلى القاهرة، وعلى رأسهم قائدهم البطل المرحوم السيد طه الذى اشتهر يومئذ باسم “الضبع الأسود”.
ودعوتهم جميعاً –جنودا وضباطا– إلى حفلة شاي في بيتي. ووجهت الدعوة كذلك إلى وزير الحربية في ذلك الحين. الذى اتصل بي معتذراً عن عدم استطاعته تلبية الدعوة. وأضاف أنه لا يرى ضرورة لدعوة الضباط والجنود أيضا.
واستغربت منطقه وقلت له:
– لقد وجهت إليهم الدعوة وانتهيت. وسأكون سعيدة بهذا اللقاء بهم. فإذا شرفتنا بالحضور فأهلا وسهلا. وإذا لم تستطع فهذا شأنك.
اللقاء الأول
وجاء الأبطال إلى بيتي، واستقبلتهم بدموع المصرية الفخور بأبناء مصر. وجلست بينهم وأنا أشعر أنهم أسرتي. صميم أسرتي. إخوتي وأبنائي. وأذكر أنني أقمت لهم في حديقة البيت محطة إذاعة صغيرة تذيع عليهم ما يطلبون من أغنياتي. وقدم لي “الضبع الأسود” ضباطه وجنوده واحدا واحدا. وحدثني عن أصحاب البطولات الكبيرة منهم. وكان في مقدمة أصحاب هذه البطولات الضابط الشاب “جمال عبد الناصر”.
وشددت على يده وأنا أصافحه. وأتأمل ما يتألق في عينيه من بريق الوطنية وحدة العزم وعمق الإيمان. وكان هذا هو أول لقاء لي بالبطل قبل أن يلعب دوره التاريخي في حياة مصر بأربع سنوات.
اللقاء الثاني
أما اللقاء الثاني. فكان يوم قيام الثورة بالذات. كان المؤذن قد انتهى لتوه من أذان الفجر. حين اتصل بي ابن أختي – وكان يومئذ ضابطا بسلاح الإشارة – وقال لي:
– أبشري، لقد حقق الله سبحانه وتعالى الأمل الكبير الذى طالما كنت تحلمين به. لقد قامت الثورة. اسمعي الإذاعة.
كنت يومئذ أصطاف بالإسكندرية، وهرعت إلى الراديو وسمعت أنور السادات بصوته القوى المؤمن يبشر الناس بقيام الثورة. ويتلو البيان الأول الذى خرجت مصر على صيحته تتنسم أنفاس الحرية. كان شيئاً كالأحلام، بل أجمل من الأحلام. ونهضت على الفور وأعددت عدتي للسفر إلى القاهرة، اتجهت إلى مطار الإسكندرية، وهناك وجدت بعض أعضاء الوزارة القائمة يومئذ – وزارة نجيب الهلالي – يتأهبون لركوب الطائرة لتذهب بهم إلى القاهرة.
وسألني أحد الوزراء:
– لماذا أنت ذاهبة إلى القاهرة؟
قلت له بمنتهى الصرامة:
– قل لي أنت. لماذا أنتم ذاهبون إلى القاهرة؟
قلت له لسبب ذهابك. واستغربت لأنني كنت واثقة أنهم ذاهبون لعلهم يحاولون الوقوف في وجه القدر. ولكن يد الله كانت فوق أيديهم. وبقيت الثورة واستقرت في أعماق التاريخ. أما هم فقد ذهبوا مع الريح. ونزلت من الطائرة. ذهبت إلى إدارة الجيش بكوبرى القبة رأسا. لأهنئ الأبطال الثائرين على الظلم والبغي والطاغوت الذين وثبوا ليضعوا نهاية تاريخية لعهود الظلام. وكنت أتصور وأنا أتسرب إلى مبنى إدارة الجيش. أنني لن أعرف منهم أحدا.
ولكنى عندما قلبت عينيَّ في وجوه هؤلاء الأبطال. لم ألبث أن تبينت أنني أعرف من بينهم تلك الوجوه الحبيبة المؤمنة. وجوه أبطال الفالوجة الذين احتفيت بهم في بيتي منذ أربع سنوات. وفى طليعتهم وجه “جمال عبد الناصر”. وتصافحنا للمرة الثانية. وقد ازداد في عينيه هذه المرة بريق الإصرار على النصر.
وعدت إلى بيتي في القاهرة. واتصل بي الأستاذ الشاعر أحمد رامي. وسألته أن يعجل بنظم تحية أقدمها للثورة. فقدم لي الأغنية التي مطلعها:
– مصر التي في خاطري وفى فمي/ أحبها من كل روحي ودمى/ بنى الحمى والوطن/ من منكم يحبها مثلى أنا.
وتوالت الثورة بمسيرتها المنتصرة بقيادة “جمال عبد الناصر”. وتوالت الأحداث وخرج الإنجليز من مصر. وانكسر احتكار السلاح. وأممت القناة. وقام العدوان الثلاثي وانتصرت مصر مرة أخرى. وأقيم السد العالي. وأنا أنفعل بهذه الأحداث. حدثا وراء حدث. وأترجم كل انفعال إلى أنشودة من أناشيد الثورة. وهى خير ذخر أعتز به في حياتي. ومنها “منصورة يا ثورة أحرار”. و”طوف وشوف”. و”يا حبنا الكبير”. و”على باب مصر”.
حادثان وأنشودتان
غير أن هناك أنشودتين من بين كل الأناشيد. أحسست بانفعال أعمق وأنا أغنيهما. وقد ظللت أستشعر عمق الانفعال كلما ذكرتهما. الأولى: الأغنية التي غنيتها لناصر. يوم كتب الله النجاة من الحادث الأثيم الذى أطلق فيه عليه الرصاص بالإسكندرية. يوم غنيت له: أجمل أعيادنا الوطنية/ بنجاتك يوم المنشية.
والثانية عقب النكسة. يوم أعلن جمال ذلك النبأ الأسود. الذى انخلع له قلب مصر. وقلب الأمة العربية. نبأ تنحيه. وكنت. منذ الساعة التي تأكدت فيها أنباء النكسة. خاصمت النوم. ولم يعد لي هم بالليل ولا بالنهار؛ إلا التفرغ لدموعي. وأتوجه إلى الله في صلاتي أن يمدنا بالأمل لإنقاذنا. فلما أعلن “جمال عبد الناصر” نبأ تنحيه. فقدت الرجاء في إطلالة الأمل.
وكنت أتصل بأصدقائي، وأصدقائي يتصلون بي؛ لعل أحدنا يجد عند الآخر نبأ يكشف الغمة. ولا حديث لنا إلا عن المأساة التي ازدوجت وأطبق عليها اليأس بتنحى “جمال” عن مكانه. وفى تلك الليلة. قلت لصالح جودت تليفونيا:
– إن الأمل الباقي، هو أن يبقى جمال عبد الناصر في مكانه.
وبعد منتصف الليل، اتصل صالح جودت بي، وتلا علىّ المعنى منظوما في أنشودة تحمل صورة نداء لجمال مطلعها: قم واسمعها من أعماقي/ فأنا الشعب/ ابق فأنت السد الواقي/ لمنى الشعب/ ابق فأنت الأمل الباقي/ لغد الشعب/ ابق فأنت حبيب الشعب.
وأملاها بالتليفون. وأيقظت رياض السنباطي، وأمليتها عليه. ولم ينم السنباطي، وفى الصباح انتهى من تلحينها. وبعد يوم سجلتها. وقدمتها الإذاعة لجماهير ٩ و١٠ يونيه. التي خرجت تحت قنابل العدو تطالب ببقاء “جمال” وبقى “جمال” وعاد الأمل يطل من جديد.
لقاءات لا حصر لها
– لقيت “جمال” عشرات المرات، في مختلف المناسبات. وكان لا يفوته في كل حفلة أغنى بها ويشهدها في نادى الضباط أو جامعة القاهرة؛ أن يدعوني أثناء الاستراحة وتدور بيننا أحاديث عن الفن، كان معتزا بالفن المصرى. قوى الإيمان بأن الفنانين كتيبة من كتائب المعركة، ترسى دعائم الوحدة، وتؤصلها في نفوس العرب، وتحرك العزائم ليوم عظيم. تتغلب فيه هذه الأمة على أعدائها وتحتل المكان اللائق بها، وتثبت أنها “خير أمة أخرجت للناس”. وكان “جمال” إنساناً بكل ما في كلمة الإنسانية من معنى. كان يرى في ولده “خالد” رمزا لجيل الثورة، ويحس نحو كل ابن من أبناء الجيل بنفس إحساسه نحو “خالد”.
كان “جمال” يذكر الله في كل موقف. وكان لأغاني رابعة العدوية وقع خاص في نفسه. لتصوفها وروحانيتها، وكثيراً ما كان يقول لأهل الفن إن أغاني رابعة العدوية يجب أن تكون نصب أعينهم كأنموذج لمثالية الغناء،. وكان حبه للغناء والموسيقى دليلا على حسه المرهف. إلى حد أنه كثيرا ما كان يعمل في مكتبه، وهو يستمع للغناء، وكنت أشعر بالفخر حين أسمع أنه يطلب أغنياتي فور تسجيلها وقبل أن تذاع على الناس.
كنت أعرف أنه متعب القلب، ومع هذا يبذل من روحه وجسده فوق طاقته لخدمة مواطنيه ورفعة شأن وطنه، وآمنت به وبما يفعل، وفى حدود طاقتي حاولت أن أحذو حذوه واتخذ منه أسوة حسنة، ولهذا لم أستسلم لليأس بعد النكسة.
لم يكن أمامي إلا أحد أمرين، فإما أن ألتزم الصمت، وأقبع في ركن من الانهيار النفسي. وإما أن أمضى بسلاحي (صوتي) أبذل ما أستطيع من جهد من أجل المعركة. واخترت الأمر الثاني.
المجهود الحربى
وأحسست أننى أقف وراء “عبد الناصر” لو غنيت داخل وخارج الحدود لأرفع صوتي باسم وطني، وأجمع ما أستطيع جمعه من عتاد للمعركة، لعلى أرد جميل مصر، وبعض جميل البطل الذى يحترق من أجل مصر، والذى كرم الفن أجمل تكريم، والذى زين صدري بأرفع وسام في الدولة، وأعز قدري بجائزة الدولة التقديرية للفنون، هذه الجائزة التي أحسست أن “عبد الناصر” لا يكرمني بها وحدى، وإنما يكرم بها جميع إخواني “خُدَّام الفن” ولهذا تبرعت بمنحتها المالية لصندوق الفنانين.
وبهذا الدافع غنيت في كثير من المحافظات بعد العدوان، وغنيت في ليبيا وتونس والمغرب والسودان ولبنان والكويت وباريس وكان آخر المطاف في موسكو، ذهبت لأغنى لهؤلاء الأصدقاء الذين وقفوا معنا في المعركة.
ولم أكن أدرى ما يخبئ القدر وأنا في موسكو. إلا حينما أيقظني ابن أختي فى الصباح الباكر. وهو يجاهد نفسه ويجالدها ليلتمس الوسيلة التي يقول لي بها إن “عبد الناصر” قد ذهب للقاء الله، وأن مصر فجعت في أعز ما تملكه، ورحت أصرخ: مصر، وطني، بلدي، مصير بلدي، المعركة، ما المصير؟ يا رب، لطفك يا رب.
وعدت من موسكو دون أن أغني أُسائل نفسى:
– هل أستسلم ليأسٍ كيأس النكسة؟ أو بنفس الإيمان الراسخ في أعماقي، الإيمان الذى تعلمته من “عبد الناصر” أخرج اليأس من وراء ظهري وأمضى في طريقي أغنى للنصر حتى يوم النصر”.