أكوتاغاوا ريونوسكي*
ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم- سارة تاكا هاشي
نقلا عن كتاب “خيط العنكبوت” وقصص أخرى- المشروع القومي للترجمة 779.
(1)
يحكى أن بوذا كان في يوم من الايام يتجول وحيدا حول بحيرة اللوتس في الجنة، بينما كان السكون يخيم على أزهار اللوتس في البحيرة، تلك الأزهار التي كانت مثل حبات لؤلؤ مدورة ناصعة البياض ناعمة الملمس، رائعة الجمال، تخرج منها زنابق ذهبية تبعث بعبيرها وطيبها الفواح دون توقف كأنها نافورة لا تتوقف عن إطلاق عطرها بينما كان الصبح يتنفس ويعم نوره أنحاء الجنة..
بعد قليل توقف بوذا قليلا.. ثم اقترب من حافة بحيرة أزهار اللوتس، وشرع يتطلع إلى أعماق البحيرة، بينما كانت أوراق أزهار اللوتس تغطي سطح الماء.. ومن اسفل أزهار اللوتس الموجودة في الجنة، كانت هناك أعماق جهنم، ومن خلال هذا الماء الرقراق الذي يشبه بلورة صافية كان بوذا يستطيع أن يشاهد بوضوح تام منظر النهر الذي يعبر فيه الموتى، وجبال الإبر المدببة.. كان يرى كل ذلك بوضوح كأنه يشاهده من خلال منظار مكبر..
في قاع جهنم رأى رجلا يدعى “كندادا”، كان يمضي مع غيره من المذنبين، الذين حشروا في جهنم.. كان كندادا لصا شريرا، قتل كثيرا من الناس، وأحرق عديدا من البيوت، ومع هذا فقد فعل حسنة واحدة فقط في حياته. فذات يوم بينما كان يمشي في غابة البوص الكثيفة كاد يسحق بقدمه عنكبوتا صغيرا كان يعبر الممر الذي يمشي عليه كندادا، حيث شاهد كندادا العنكبوت، انتبه على الفور وفكر:
- لا… لا… رغم أنه حشرة صغيرة، لكنه ذو روح، من المؤذي أن أقتله..
تحاشى كندادا العنكبوت.. لم يقتله..
كان بوذا يشاهد منظر جهنم، ويتذكر ما فعله كندادا حين أنقذ العنكبوت من الموت ذات يوم، حينئذ فكر في أن ينقذه من الجحيم لأنه فعل في حياته تلك الحسنة، ومن حسن الحظ حين نظر بوذا إلى جانبه شاهد عنكبوتا من عناكب الجنة فوق أوراق زهرة اللوتس يانعة الخضرة، كان العنكبوت يصنع خيوطا فضية جميلة.. أخذ بوذا خيوط العنكبوت بلطف شديد، وبعناية، وأنزلها من بين أزهار اللوتس البيضاء إلى أعماق الجحيم..
(2)
هنا.. كان كندادا يطفو على السطح ثم يغوص في بركة الدماء في قاء جهنم، على كل حال كانت الظلمة تغطي كل مكان، أحيانا كانت هناك أشياء تطفو في الظلمة، يبدو أنها إبر تساقطت من جبال الإبر المرعبة، لأنها كانت تلمع بين الحين والآخر، فتجعل قلوب المذنبين تنتفض، وتكاد تتوقف من الرعب، ووسط الصمت الرهيب الذي كان يخيم على الأجواء، كانت تسمع تأوهات خافتة، تصدر عن أولئك الذين سقطوا في الجحيم، وأصابهم إرهاق كبير، ففقدوا القدرة حتى على البكاء أو الصريخ أو العويل، ولما كان كندادا لصا كبيرا أو كان “شيخ منصر” لجميع اللصوص، فقد كان لديه بقية من طاقة أو عافية لهذا كان يطفو على سطح بركة الدم، كأنه ضفدع يلفظ أنفاسه.. كأنه في النزع الاخير، لكنه حين رفع رأسه، وهو ينظر إلى أعلى حيث سماء بركة الدم، شاهد في الظلمة الحالكة خيط عنكبوت فضي لامع، يتدلى من بعيد من حيث الجنة، وكان خيط العنكبوت يتدلى بطريقة بدا كأنه يخشى أن يراه أحد، فكان يتلوى فوق رأس كندادا مباشرة.. حين لمح كندادا خيط العنكبوت شعر بالامتنان، وضم كفيه معبرا عن الامتنان والشكر.. وفكر:
- لو أمسكت بهذا الخيط، وتسلقته حتى نهايته فسوف أنجو من جهنم، ولو كنت محظوظا حقا فسأدخل الجنة أيضا! ولو لم يحدث فسوف أنجو على الأقل من المعاناة ولن أدنو من جبال الإبر او اصبح في بركة الدم..
وهكذا أمسك كندادا خيط العنكبوت بكلتا يديه بسرعة فائقة، وبدأ يتسلق الخيط بقليل من الصعوبة، كان لصا لهذا اعتاد أن يفعل مثل هذا كثيرا.. لكن المسافة بين جهنم والجنة كانت مسافة طويلة ورغم أنه كان يسرع ويسرع ، لكنه لم يتمكن من الوصول.. فبعد فترة شعر بالإرهاق. لم يتمكن بعد ذلك من التسلق مسافة أخرى فأراد أن يستريح قليلا، وهو يمسك بخيط العنكبوت، ويتطلع إلى أسفل.. كان قد ابتعد كثيرا، وكانت بركة الدم التي يغوص فيها قد اختفت في الظلام، كما صارت جبال الإبر بعيدة عنه، ربما لو ظل يتسلق بهذه الطريقة لما وجد صعوبة في النجاة من جهنم..
ضحك كندادا وهو يصيح:
- فعلتها.. فعلتها..
قال هذا بصوت عال لم يصدر عنه منذ أن دخل جهنم.. لكنه نظر إلى أسفل، فوجد عند طرف خيط العنكبوت كثيرا من المذنبين.. أعدادا لا حصر لها، يتسلقون خيط العنكبوت كأنهم النمل من خلفه.. تسلقوا حتى كادوا أن يصلوا إليه!
حين شاهد كندادا هذا المشهد تعجب وشعر بالخوف، وفغر فاه مثل المجنون، وبدأت عيناه تحملقان هنا وهناك.. وعاد يفكر من جديد:
- هذا الخيط الدقيق، يمكن أن ينقطع تحت ثقله هو وحده، كيف سيتحمل ثقل مثل هذه الأعداد من الناس! لو انقطع هذا الخيط، لن يسقط هؤلاء فقط، بل سيسقط هو أيضا، مع أنه اقترب من الجنة.. سيسقط مع هؤلاء، سيسقطون جميعا إلى جهنم مرة أخرى!
ثم اتخذ قرارا سريعا:
- لا.. لا يجب أن يحدث هذا!!
وبينما كانت هذه الفكرة تسيطر عليه، كان عدد كبير من المذنبين قد تسلقوا في صف واحد على هذا الخيط العنكبوتي الدقيق، ففكر كندادا:
- يجب أن أفعل شيئا وإلا انقطع خيط العنكبوت، وسقط الجميع في جهنم مرة أخرى..
ثم صرخ كندادا بصوت عالٍ:
- توقفوا! أيها المذنبون توقفوا! خيط العنكبوت هذا ملكي وحدي.. هل استأذنتم.. انزلوا.. انزلوا..
في اللحظة نفسها التي نطق فيها بتلك العبارة انقطع الخيط فجأة من المكان الذي كان يمسكه به كندادا، مصدرا أزيزا عجيبا.. لم يستطع كندادا أن يفعل شيئا، فسقط لتوه إلى قاع الظلمة، يدور حول نفسه مثل لعبة “النحلة” التي يلف حولها الأطفال الخيط، ويلقون بها على الأرض فتظل تدور بسرعة كبيرة.. وظل خيط العنكبوت يتدلى قصيرا، يسطع وسط سماء لا نجوم فيها ولا قمر.
(3)
ظل بوذا يشاهد هذا المشهد من البداية، وهو يقف بجوار بركة أزهار اللوتس في الجنة، فرأى كندادا يهوي إلى بركة الدم مرة اخرى مثل حجر.. فغطت ملامح الحزن والأسى وجهه..
عاد بوذا إلى التجول مرة أخرى.. لقد سقط كندادا إلى جهنم مرة أخرى؛ بسبب أنانيته، وخلو قلبه من الرحمة، لأنه أراد أن ينجو بنفسه فقط من جهنم.. شعر بوذا بأن سلوك كندادا كان مخجلا وأنه كان شديد الأنانية..
لكن أزهار اللوتس البيضاء المدورة كحبات اللؤلؤ في الجنة لم تتأثر على الإطلاق، كأن شيئا لم يكن، فبدت كأن الأمر لا يعنيها في شيء، فكانت تتمايل في بطءٍ شديد عند أقدام بوذا، ومن زنابقها الذهبية كان العبير والطيب ينبعثان لا متناهيان هنا وهناك.. بينما أوشك وقت الظهيرة أن يحل على الجميع..
—————————————————-
* كاتب ياباني من مواليد 1 مارس 1892، في فترة “تايشو” في العام الخامس والعشرين من عصر “ميجي” أي بعد ربع قرن من بداية حركة التحديث والتنوير اليابانية التي بدأتْ بإعادة الساموراي مقاليدَ السلطة والحكم إلى الإمبراطور.
درس “أكوتاغاوا” الأدب الإنجليزيّ في جامعة طوكيو الإمبراطورية، وبدأ في الكتابة والنشر وهو ما يزال طالبًا في الجامعة. سمي بـ “أبو القصة القصيرة اليابانية”. بعمر الـ35 قام بالانتحار عن طريق جرعة زائدة من الباربيتال في 24 يوليو 1927. وبعد موته بثماني سنوات أطلق صديقُ عمره، الكاتبُ والناشر “كان كيكوتشي،” جائزةً أدبيّة باسمه، لتصبح أشهر جائزة أدبيّة في اليابان. مجموعة قصص “راشومون” الأصيلة كانت أول مجموعة يصدرها “ريونوسكي أكوتاغاوا” في حياته وأهداها إلى روح أستاذه “سوسيكي ناتسومي”. ترك “أكوتاغاوا” ما يزيد على المئتين وخمسين عملًا، أغلبها قصص قصيرة. وتُعتبر أعماله قمّة الأعمال الأدبية اليابانية التي كُتبتْ في بدايات القرن العشرين والتي لا يزال لها بريقها ورونقها حتى الآن.