لندن تفتح لك أبوابها يا “خليل” إنها عازمة أن تنسيك تاريخا من العشق والوله بأم البلاد، مدينة الضباب التي تختار فرائسها بعناية، وترسلهم إلى المتاهة لتقتفي آثارهم بعين خؤون.. لكن قلبك مازال في مباهجه الأولى في “ديرمواس” يرتع بين ناسه البسطاء، في براح الأرض الطيبة.
“أبو زيد بك علي” عمدة “دير مواس” وعين أعيانها رجل وطني بحق، العمل على نهضة الوطن، وفكاكه من أسر المستعمر.. يشغل باله ليل نهار.. الفتى خليل الذي أتم تعليمه العالي متخصصا في مقاومة الآفات الزراعية؛ أحب أبنائه إليه، لما عُرف عنه من حميد الخصال وكريم الأخلاق، يقول “أبو زيد بك”: “وددت لو لم تغب عن عيني لحظة واحدة يا “خليلي”.
“سنوات قليلة تمر سريعا يا أبي، أعود لك بعدها؛ وقد عرفت أصل الداء ومكمن الدواء؛ لأبرئ هذه الأرض الحبيبة من كل آفة.. الفلاحون -يا والدي- يحتاجون جهدي وعلمي لأكون عونا لهم في مواجهة كل ما يضيع جهدهم ويبدد آمالهم.. لا فرق عندي بين محتل غشوم ينهب خيرات بلادي، وتلك الآفات القاتلة التي تدمر زرعنا وتخرب بيوت فلاحينا البسطاء.. وجهتي لندن عاصمة أعدائي منها أستجلب العلم الذي أخرجهم به من بلادي”.
عاصمة الضباب شتاء 1914، جامعة لندن تستقبل فتانا ابن الثالثة والعشرين؛ لينكب على الدرس، مسابقا الزمن ليعود إلى بلاده مناضلا من أجل الاستقلال.. لندن ليست مستقرة تجتاحها مظاهرات النساء من أجل الحق في التصويت، يشهد “خليل” في صيف العام نفسه تجمع 50000 امرأة في “هيد بارك” للتأكيد على هذا الحق.. متى عرفت “بريطانيا” أداء الحقوق يا “ماري”!
“ماري” متيمة بك يا “خليل” مذ رأتك لأول مرة، وأنت تخطر واثقا في الطريق إلى المختبر.. “جميلة أنت يا “ماري” لكن ليس بجمال سنابل القمح في بلادي.. هناك في صعيد مصر تصهرنا حرارة الطقس، فنصير أشجارا نصنع الظل.. نورف.. نثمر؛ فإن غادرنا منابتنا اعتصمنا بهجير أرواحنا حتى نؤوب”.
سنوات خمس انقضت، “خليل أبو زيد علي” دكتوراه من جامعة لندن.. انتهت المهمة وحان وقت الإياب.. في وداعه تقف “ماري” لتقول كلماتها الأخيرة، قبل أن تفيق من الحلم: “خلال تلك الأعوام عرفت فيك مصر يا “خليل” وأحببتها حبا خالصا، آمنت بها وبحقها في الحرية، وها أنا ذا أقدم حبي قربانا على مذبحها.. عد إليها يا “خليل” ولا تكن أبدا أقل من فارس يضحي بكل شيء في سبيل مجدها”.
فور وصوله يُصدم دكتور “خليل” بما جلبته “بريطانيا من وبال على مصر، بنشرها وباء الإنفلونزا الإسبانية الفتاك في ربوع مصر عن طريق جنودها الذين تجاوز عددهم المئة ألف، التقديرات أشارت إلى أن ما يزيد عن واحد بالمئة من السكان البالغ عددهم نحوا من أربعة عشر مليونا – قضوا جراء الإصابة بالمرض الي أصاب نصف مليون مواطن مصري.
كان خريف عام 1918، قد شهد محاولات “سعد زغلول” السفر إلى مؤتمر “الصلح” في باريس؛ لعرض مطالب مصر بالاستقلال، لكن سلطات الاحتلال ترفض سفر الوفد؛ متذرعة بوجود صعوبات تحول دون ذلك.. مر الشتاء على مصر في موات غريب جعل “سعد باشا” في حيرة بالغة، كيف هدأت الأمور على هذا النحو وكأن شيئا لم يكن؟ لكن المحتل يشعل الثورة بنفسه باعتقال “سعد” ورفاقه ونفيهم إلى مالطا.
وصل خليل إلى “ديرمواس” وبدأ في عقد اجتماعات مع الشباب للبحث في سبل التعبير عن رفض ممارسات الاحتلال الذي استحل نهب كل شيء بحجة الحرب العالمية.. كان مقررا أن يمر القطار الذي يحمل مستر “بوب” كبير مفتشي السجون بالوجه القبلي بـ “ديرمواس”. قرر المجتمعون إيقاف القطار بأي وسيلة حتى يتمكن دكتور “خليل” من إلقاء كلمة باللغة الإنجليزية، يعبر فيها عن مطالب المصريين بسرعة إنهاء هذا الوضع غير المقبول والجلاء عن البلاد.. لكن الإنجليز بدءوا بإطلاق النار على الأهالي من القطار، فثارت ثائرة المصريين فقتلوا كل من في القطار، وعلى رأسهم المفتش الإنجليزي مستر “بوب”.
تطورت الأمور بسرعة، وحاصر المحتلون “ديرمواس” وطالبوا بتسليم المتهمين في الأحداث، وعلى رأسهم الدكتور “خليل” الذي خاطب قائد القوات الإنجليزية، ولم يكن الإنجليزي يعرفه، فأخبره “خليل” بعد اطلاعه على أسماء المطلوبين، أن عملية القبض لا بد أن تحدث ليلا بعد أن يكون المتهمون قد عادوا من حقولهم، وصدقه الضابط الإنجليزي، ورجع بالقوة، فأسرع “خليل” بإبلاغ كل المطلوبين وخرجوا جميعا فارين إلى “تونا الجبل”.. لكن ما فعله المحتل بالأهالي جعل “خليل” ورفاقه يسلمون أنفسهم؛ حتى يفك المجرمون الحصار، ويطلقوا سراح من قبضوا عليهم من الأهالي.
وحوكم الثوار محاكمة عسكرية سريعة في مديرية أسيوط، إذ كان مركز دير مواس يتبعها إداريًا في هذا الوقت، وتم الحكم على المقبوض عليهم بالإعدام شنقًا، حاول “أبو زيد” بك استصدار قرارا بالعفو لإنقاذ “خليل” من الموت، وبعد محاولات مضنية ينجح الأب في استصدار القرار، ويسرع به إلى حيث يوجد البطل.. لكن يد الغدر والخسة كانت قد نفّذت حكمها الإجرامي بإعدام البطل، ومعه خمسة وثلاثون بطلا من رفاقه الثائرين.
ولم تفلح محاولات “إخوة” خليل في استلام جثمانه الطاهر، إذ جاءت الأوامر المشددة بعدم تسليم جثث الشهداء إلى ذويهم، حتى لا تشتعل الثورة في الصعيد من جديد.. لم تتحمل أم البطل فقد ابنها الحبيب على هذا النحو فلحقت به بعد أيام قليلة، ولم يتأخر الأب المكلوم في اللحاق بهما، فتبعهما بعد أيام.
في أيامه الأخيرة قبيل تنفيذ حكم الإعدام كان دكتور “خليل أبو زيد علي” متوقد الذهن، حاضر النكتة، لم تشاكس محياه الطلق لحظة عبوس؛ كأنما يناجي بلاده التي يستعد لتقديم روحه فداء لها.. في حال من الرضى بما قسمه الله له، لا يشغله سوى التفكير في كيفية استمرار جذوة النضال مستعرة في وجوه هؤلاء المحتلين الآثمين الأدعياء.. لقد عرفهم في بلادهم على حقيقتهم، كل أعرافهم وتقاليدهم تخلوا من الإنسانية، يستعلون بالباطل على الشعوب التي استعبدوها، لكنهم في الحقيقة هم العبيد لمآربهم الخبيثة وأطماعهم غير المحدودة، لا يشك “خليل” أن الفجر سيأتي قريبا، وأن الشمس ستغيب إلى الأبد عن مملكة المستعمر.. قد علم ذلك على وجه اليقين حين كان هناك ذات يوم في عاصمة الضباب التي أعمتها المظالم فكف بصرها عن رؤية الحق الواضح.
سلام عليك يا “خليل” يوم ولدت ويوم ارتقيت إلى العلا ويوم تبعث في دمائك الزكية فارسا وبطلا أحب مصر ولم يبخل بروحه من أجل الدفاع عن حريتها وحقها في الحياة.