فن

المسرح المصري: ماضٍ مضيء وواقع مظلم ومستقبل غامض (1-2)

“أراهن على بقاء المسرح للأبد؛ لأنه يرتبط برغبة إنسانية أساسية، ألا وهي التعبير عن المشاعر وتشخيصها وهذا ما يفعله المسرح”. هكذا راهن الفيلسوف اليوناني “أرسطو” على أهمية المسرح ودوره الرئيس في حياة البشر، وتكوين وعي وصياغة وجدان الإنسانية.

في ظل الجدل الدائم والمتزايد عن تراجع مكونات قوة مصر الناعمة، خلال العقود الأخيرة، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تأثير، على النفوذ المعنوي الذى تخلقه الفنون والآداب، والتي تملك تاريخا طويلا من التميز؛ فإن المسرح (أبو الفنون) يبدو أكثر تلك المكونات تضررا سواء؛ بسبب عوامل ذاتية تتعلق بطبيعة هذا الفن، الذى يحتاج إلى مواصفات بعينها، وطبيعة جمهور مختلف عن المكونات الأخرى.. وقد تفاقمت أزمة المسرح المصري خلال العقد الأخير وضاعفت جائحة كورونا من جراحه؛ لكن الأزمة التي بدأت قبل ذلك –بالطبع– تحتاج إلى تحليل من أجل الوصول لأسبابها وطرق الخروج منها؛ خاصَّة في ظل ظهور منافسة إقليمية تطل برأسها؛ وتسعى لتوجد لنفسها مكانة فنية وفكرية على حساب الدور التاريخي والمكانة التي صنعتها أجيال متعاقبة من المبدعين.. ورغم أن المسرح الحديث قد بدأ على يد عناصر غير مصرية إلا أنه سرعان ما ذاب –هذا الفن– في عروق المصريين، وذاب من أتوا به إلينا في مصر و هاموا بها عشقا؛ حتى أصبحوا “مصريي الهوى”.

البدايات والمسارات

ومنذ أن قدم “يعقوب صنّوع ” (1839-1912) تجربته في المسرح المعاصر عام 1867، والتي تمثل البداية الحديثة للمسرح المصري بعد عدة تجارب قادها الفرنسيون خلال حملتهم على مصر ( 1798-1801) ثم تجربة المسرح الذى تبناها الخديوي “إسماعيل” أثناء حكمه من  (1863 – 1879).

يعقوب صنوع
يعقوب صنوع

كانت تجربة “صنّوع” هي الإعلان عن مولد المسرح المصري الحديث؛ لكنها لم تكمل على الرغم من  الاهتمام المبكر للخديوي “إسماعيل” بتلك التجربة الوليدة إلا أن جرأة العروض التي قدمها والتي وجه خلالها انتقادات حادة للسلطة الحاكمة ونال الخديوي نفسه قدرا كبيرا منها- كان وراء قرار وقف العروض وغلق المسرح.

وكان “صنّوع ” صاحب الريادة في تقديم مسرح يعتمد في بداياته على النصوص المترجمة أو المُمَصِّرة وكان هذا أحد سمات المسرح المصري لعقود طويلة.

لكن المسرح الذى ولد معتمدا على ترجمة النصوص الغربية؛ كان لديه القدرة على خلق نفوذ معنوي متزايد في الوطن العربي، وقام صُناعه بحمل أمتعتهم والتنقل من بلد إلى آخر؛ لتقديم عروضهم في بلدان لم تكن تعرف عن المسرح شيئا في هذا الحين.

فتعرّف الجمهور العربي على الأغنية والموسيقى المصرية التي تتضمنها العروض، وسرعان ما أصبحت اللهجة المصرية هي الأكثر انتشارا بين الأقطار العربية، وصارت الثقافة الشعبية المصرية بكل ما تملكه من ثراء؛ هي الأقوى حضورا بين الجماهير العربية.

وكانت بدايات القرن العشرين تُمثّل مرحلة جديدة في تطور المسرح الذى بدأ في مصر وافدا بجهود عدد من الرواد ذوى الأصول “الشامية” إلا أن “أحمد أبو خليل القباني” تمكّن من الاستعانة بالتراث العربي في تقديم عروض مسرحية مصرية متكاملة للمرة الأولى في العصر الحديث.

أبو خليل القباني
أبو خليل القباني

ومنذ تلك اللحظة أصبح “أبو الفنون” حاضرا بقوة في مقدمة مكونات قوة مصر الناعمة، وشهد القرن العشرين نهضة كبيرة جعلته يحتل مكانة بارزة في الواقع الثقافي العربي، واستطاع أن يساهم بقوة في صياغة الوعى الجمعي للملايين من العرب، وربطهم من المحيط إلى الخليج بقضايا أمتهم وتوحّد وجدانهم حول ذائقة متجانسه ومتقاربة، وهو ما مهّد التربة الاجتماعية لكل الخطوات التي جاءت بعد ذلك في إطار التجانس المجتمعي بين العرب.

هكذا كان المسرح المصري رائدا في تشكيل ما نطلق عليه الآن “قوة مصر الناعمة” ومكون رئيس من روافد تشكيل الصورة الذهنية المبهرة والرائدة للفنان المصري منذ ذلك الوقت حتى الآن.

مسرح الستينيات

مرّ المسرح المصري بعدة مراحل منذ نشأته في القرن التاسع عشر، ويرى المؤرخون أن حقبة الستينيات من القرن العشرين كانت الفترة الذهبية في توهج التجربة المصرية لذلك يتردد دائما “مصطلح مسرح الستينيات” كدلالة على تميّز تلك الحقبة من تاريخنا الفني.

والثابت أن تلك المرحلة (الخمسينيات والستينيات) قد شهدت تطورا كبيرا في مختلف فروع الثقافة والفن المصري، وأدركت الدولة المصرية أهمية تطوير ودعم الفنون وهذا كان أحد الأسباب الرئيسة وراء النهضة التي شهدها المسرح حينذاك؛ خاصَّة ما أطلق عليه “مسرح الدولة” أو المسرح القومي الذى كان محل اهتمام رسمي كبير، من خلال تقديم كل أوجه الدعم على مستوي المنشآت أو توفير ميزانيات تسمح بإنتاج فنى كبير أو المؤسسات العلمية مثل المعاهد المسرحية وأكاديمية الفنون والبعثات الخارجية، لدراسة المسرح في دول أوربا وغير ذلك من أشكال الدعم الرسمي، والتي كشفت عن الإيمان بأهمية الفنون لدى كل صناع القرار في السلطة.

وكان لانحياز ثورة يوليو المبكر لقضايا العدالة الاجتماعية أثرٌ، في تلاقي أحلام المسرحيين مع رؤى رجال الثورة وتصوراتهم، ولأن المسرح بطبيعته منبر تعبير جماهيري مباشر فإن علاقة وثيقة جمعت كتاب المسرح ورواده مع أفكار الثورة، ووجدوا فيها تعبيرا عن طموحهم الفني والفكري، وأرسى مسرح الستينيات قواعده في التعبير عن الآمال والآلام والتطلعات الاجتماعية، وتلازم هذا مع ظهور ”الواقعية الاشتراكية” كمدرسة أدبية وفنية تأثرت بها جميع ألوان التعبير الأدبي والفني.

فرقة رمسيس المسرحية
فرقة رمسيس المسرحية

وظهر عدد من الكُتاب الذين قادوا مدارس مسرحية متنوعة داخل الإطار الواقعي، و خرجت أعمال ومؤلفات مسرحية كُتِبَت مباشرة لخشبة المسرح بعد سنوات من الاعتماد على الإعداد والاقتباس والتعريب، إلا نادرا.. وظهر في مرحلة الستينيات عدد من كُتَّاب المسرح يتمتعون بالوعي بفن المسرح والقدرة على الكتابة له مباشرة مثل: “ألفريد فرج” و”سعد الدين وهبه” و”يوسف إدريس” و”نعمان عاشور” و”ميخائيل رومان” و”صلاح عبد الصبور” و”عبد الرحمن الشرقاوي” و”نجيب سرور” و”رشاد رشدي” حيث تنوعت الدراما بتنوع أساليب هؤلاء الكُتاب.. ما بين دراما واقعية اجتماعية، ودراما واقعية سياسية، إلى جانب الدراما الذهنية التي أرسى قواعدها “توفيق الحكيم” من قبل، والميلودراما الشعبية والاجتماعية التي عرفت مبكرا عند “إسماعيل عاصم” و”فرح أنطون” و”إبراهيم رمزي” و”عباس علام” وغيرهم.

ولعلنا نتعمد ذكر تلك الأسماء؛ لأنها توضح أن المسرح المصري شهد تلك النهضة الكبرى في تلك المرحلة والتي ما زلنا حتى الآن ننهل من تراثها الفني، ونستعيده ونعيد إنتاجه برؤي متعددة ومتجددة على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن.

فهل عجزت مصر عن تقديم كتاب بهذا الحجم وتلك الرؤية والموهبة؟

الإجابة قطعا لم تعجز مصر، ولن تتوقف عن ولادة المبدعين الجدد لكن المناخ الفني والاجتماعي هو الذى تغير؛ فحال دون أن تتصدر المواهب الجادة المكانة اللائقة، اللهم إلا القليل منهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock