فن

المسرح المصري: ماضٍ مضيء وواقع مظلم ومستقبل غامض (2-2)

ظل المسرح الخاص أو “التجاري” حاضرا مشاركا في رسم المشهد الفني المصري، منذ بدايته في القرن التاسع عشر حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين؛ حيث شهد تراجعا كبيرا في الوقت الذي تعرض فيه مسرح “الدولة” لحالة من الغياب المريب.

ساهم هذا في ضعف قدرة أحد أهم مكونات قوتنا الثقافية على التأثير، في الوقت الذي كانت مصر في أمسّ الحاجة له؛ خاصَّة في لحظات غياب الوعى في مرحلة الاستهداف التي  تمر بها البلاد خلال العقد الأخير.

لم يكن التراجع مفاجئا؛ بل كانت له مقدماتٌ بدأت تلوح في أفق الإبداع المصري منذُ عقودٍ. وعَبَّر العديد من المسرحيين في مؤسسات الدولة عن معاناتهم مع البيروقراطية التي تقتل الإبداع وتحاصره وتعوق مسيرته، بإجراءات ولوائح قوانين تعرقل الفنانين.

أما عن أوضاع المسرح الخاص؛ فالأمر لا يختلف كثيرا خاصّة بعد انتشار جائحة “كوفيد 19” إلا أن الأزمة قد عصفت بالتجارب المسرحية قبل ذلك بسنوات ويرجع ذلك إلى عدة أسباب من بينها الأزمة شاملة التي ازدادت حدتها يوما بعد يوم، ولم تكن الإدارة الثقافية منشغلة بهذا الملف على النحو الكافي رغم الجهد الكبير في  ملفات ثقافية أخرى من بينها الآثار وتطوير المناطق التاريخية.. كما اهتمت الدولة بتنفيذ مشروعات عملاقة في الطباعة والنشر وإنتاج الدراما التلفزيونية، وهو ملف كانت تتولاه وزارة الإعلام، بينما غاب عن الاهتمام ملفات المسرح والسينما والثقافة الجماهيرية، ما صنع فراغا شديدا تمكنت أطراف معادية للفن والإبداع من السيطرة عليه وملئه مع تراجع الدولة ومؤسساتها.. ولم يُكترث لصرخات المثقفين المخلصين والمبدعين الجادين، فكانت النتيجة أن تآكلت جدرانٌ مؤسسةٌ في بناء قوتنا؛ فتراجع نفوذنا المعنوي وتحول المسرح إلى حالة تراثية، واكتفينا بالحفاظ على إقامة المهرجانات السنوية التي غلب عليها الطابع الاحتفالي والكرنفالي؛ على الرغم من أهميتها؛ فخفت تأثير المسرح المصري داخليا وخارجيا.

مسرحية ياما في الجراب يا حاوى

وعلى الرغم من ذلك فقد قدمت وزارة الثقافة المصرية خلال عام 2021، عروضا عديدة داخل وخارج القاهرة، وقد كشف التقرير الرسمي الذى أعلنته الوزارة أن العام المنقضي قد شهد500 ليلة عرض في القاهرة والمحافظات من خلال البيت الفني للمسرح، بينما قدمت الفرق المسرحية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة 1950 ليلة عرض للفرق القومية والنوادي والتجارب النوعية على مستوى الجمهورية، وقدم البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية 343 ليلة عرض، كما قدم السيرك القومي في العجوزة وجمصة و15 مايو وأماكن متنوعة 500 ليلة عرض وقدمت فرق رضا والقومية للفنون الشعبية والقومية للموسيقى الشعبية وأنغام الشباب 573 ليلة عرض .

وهذه محاولات لا يمكن إنكارها من جانب مسرح الدولة، لكنها تظل مجرد محاولات متناثرة تتم في ظل أوضاع إدارية ومالية ومعنوية شديدة القسوة، ولا يمكن أن تستمر طويلا طالما بقيت الأوضاع.

معوقات البقاء

شهدت مسارح وزارة الثقافة منذ حريق قصر ثقافة بنى سويف عام 2005، والذى راح ضحيته أكثر من 50 شهيدا من فناني المسرح والذى ترتب عليه أغلاق عشرات المسارح وقاعات العرض لعدم توافر شروط السلامة المدنية بها وبدلا من توفير تلك الشروط كان الإغلاق هو الحل الأسهل!

تمتلك القاهرة والجيزة 38 مسرحا، معظمها مغلق فعليا سواء لأسباب فنية تتعلق بشروط الحماية المدنية أو لأسباب إنتاجية، ترجع إلى غياب العروض وضعف إقبال الجمهور  بالإضافة إلى 25 آخرين تابعة للثقافة الجماهيرية بمختلف المحافظات.

ولا يختلف الأمر كثيرا في مسارح القطاع الخاص الذى شهد تراجعا كبيرا خلال السنوات العشر الأخيرة، ووفقا للفنان محمد صبحى –أحد رواد المسرح الخاص– فقد أغلق 28 مسرحا بالقاهرة والإسكندرية في الفترة من 2010 حتى عام 2019، بعد قيام ملاك العقارات بهدمها وعدم الالتزام بإعادة بناء مسارح بعد إنشاء العقارات، وهذا يعد مخالفة صريحة للقانون الذى يلزمهم في حالة هدم عقار وإعادة بنائه، بالإبقاء على دور العرض المسرحي. ولم يحاول أحد استعادتها.

خطوات لابد منها

أولا: على صعيد اللوائح المنظمة للعمل داخل أروقة مسارح الدولة فما زالت صرخات الفنانين والفنيين متواصلة للمطالبة بتحديث تلك اللوائح المالية والإدارية التي تعجز عن اجتذاب نجوم الصف الأول في مختلف المجالات والتي تساهم في استعادة جمهور المسرح من جديد.

ثانيا: في ظل هذا التراجع يعانى صُنّاع المسرح من إصرار أجهزة الدولة على التعامل مع المسرح كأنه وسيلة “ترفيه” فحسب؛ ومن ثم تفرض عليه الرسوم والضرائب التي تفرض على الملاهي ويعامل معاملة قانونية ومالية متساوية، ما يثير حفيظة رموز المسرح المصري الذين يطالبون الدولة بتخفيف الأعباء لتشجيع الاستثمار في صناعة تعانى أزمة حادة لحمايتها من بالانقراض.

ثالثا: يعانى مسرح الدولة تجاهل مُخجل ومُضر من جانب الإعلام الرسمي الذى تملكه الدولة أو الشركات التابعة لها، وبقراءة سريعة للبرامج التلفزيونية التي تهتم بالمسرح وتتابع فعالياته وأنشطته فسوف نجد أنها خمسة برامج متخصصة منا برنامجان على قناة النيل الثقافية، بينما يغيب المسرح تماما عن ساعات البث في كافة القنوات الفضائية الأكثر انتشارا، وهذا يمثل عبئا إضافيا على المؤسسات المسرحية بمختلف تنويعاتها.

رابعا:  يأتي هذا التراجع –الإداري والفني– بالتوازي مع غياب شبه كامل للأنشطة المسرحية داخل الغالبية العظمى من المدارس المصرية، يساهم في ظهور أجيال لا تعرف المسرح ولا تعي دوره ولا تتذوق الفنون بشكل عام. وقد تسببت الكثافة المتزايدة لتلاميذ المدارس في إقدام الإدارة على التخلص من غالبية المسارح التي كانت جزءا من منشآت الأبنية التعليمية شأنها شأن ملاعب الكرة التي تحولت إلى فصول إضافية تستقبل تلاميذ جددا.. فماذا ننتظر عندما تغيب الفنون والرياضة عن مدارسنا؟!

خامسا: ضرورة الاستفادة من الوسائل الحديثة في التواصل مع جمهور لم يعتد الذهاب إلى قاعات المسرح والعمل على تقديم المُنتج المسرحي من خلال وسائط حديثة ومنصات معاصرة تحقق قدرا من الانتشار وتساهم في تنمية موارد المسرح المصري في ظروفه القاسية.

لذلك لن نتمكن من استعادة دورنا الرائد والمؤثر في المسرح العربي إلا من خلال مشروع قومي تتبناه الدولة –ولو بشكل مرحلي– يضع الثقافة والفنون في مقدمة الأولويات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock