نقلًا عن صفحة دكتور عاطف معتمد (أستاذ الجغرافيا الطبيعية المساعد بكلية الآداب جامعة القاهرة) على الفيسبوك
زارتني في القاهرة قبل عامين أستاذة روسية منشغلة بالشأن الثقافي والسياسي في بلادها. وقد فهمت منها أن هناك حالة من القلق بين الجيل الجديد في روسيا بشأن استمرار بوتين في السلطة. لم يكن القلق بسبب استمراره دون تداول الرئاسة مع أحد، ولا بسبب سيطرة حزب واحد على كل شيء في البلاد، بل لأنه كان قد اختفى عن الإعلام أسبوعين أو نحوهما مما أثار شكوكا حول حالته الصحية بل وذهب ببعض التكهنات إلى القول بأن الكرملين ربما يعلن قريبا عن تسوية ما لظهور بديل له من الدائرة القريبة من صنع القرار حتى لا يبقى بوتين مريضا ينتظر الموت دون تحضير يليق بحجم روسيا فتهتز الأوضاع في البلاد.
خيب بوتين التوقعات وعاد بعدها بكل نشاط وعدل الدستور وبقي مزيدا من السنوات في السلطة بل وخرج في الأيام الماضية بلهجة بالغة الانفعالية والشدة وكأنه رئيس في الخامسة والثلاثين، يدق طبول الحرب ويضغط على الحروف والكلمات باجتهاد واضح، وليس بالطريقة التي كان ينطق بها عباراته بكل هدوء وثقة في سنوات مجده الماضية.
في مقابل الطريقة الانفعالية لبوتين تدهشنا الطريقة الهادئة الواثقة التي يتكلم بها الرئيس الأوكراني. فهذا الرئيس ليس سياسيا بأي معنى من المعاني. فقبل سنوات قليلة كان ممثلا كوميديا وقام – للمفارقة– بعمل فني يؤدي فيه دور مواطن عادي نجح في انتخابات الرئاسة فأصبح رئيسا لأوكرانيا.
وبعد انتهاء العمل الفني ونجاحه وشهرته وفيما يشبه الأساطير خاض هذا الممثل انتخابات الرئاسة في أوكرانيا وفاز فيها بفوز كاسح يزيد عن 70 %.
المراقبون للوضع في أوكرانيا يقولون إن الرئيس الأوكراني لم يصعد لكاريزما ومهارة فحسب، بل كان مدعوما من أحد حيتان الاقتصاد في أوكرانيا الذي كان يمول برامجه التلفزيونية وحصل منها هذا الممثل على ثروة بملايين الدولارات.
وحتى أتحقق من رد الرئيس الأوكراني على هذه التهمة ذهبت إلى أرشيف لقاء له على اليوتيوب، فوجدته يدافع عن نفسه من تلقيه أموالا من هذا الحوت الاقتصادي الكبير – مالك الإعلام في أوكرانيا – ولا ينكر ذلك ويقول العبارات الشهيرة “إذا كنتُ فاسدا لأنني تربحت من العمل مع هذا الرجل، فكل أوكرانيا إذن فاسدة لأنه لم يكن هناك إعلام آخر غير شبكة قنوات هذا الحوت العظيم”.
المقارنة إذن مدهشة بين رئيس أوكرانيا (الشاب الحبوب والممثل الكوميدي ومقدم البرامج) ورئيس روسيا (رجل المخابرات والرئيس المخضرم الذي عمَّر في الكرميلين 22 عاما متصلة)؟
الحقيقة ان المقارنة ليست في صالح أوكرانيا بسكانها الذين يزيدون قليلا عن 40 مليون وسكان روسيا بنحو 150 مليون نسمة، ولا مقارنة بتسليح الجيش الروسي وتسليح الجيش الأوكراني، فروسيا لديها في كل الأسلحة ما بين 10 إلى 15 ضعف ما لدى أوكرانيا.
لكن المقارنة تبدو ذات أهمية في دلالة مفهوم الديموقراطية والاستبداد الشرقي.
أوكرانيا تختار ممثلا ليصبح رئيسا، أي أنها تريد الحياة والفن والاقتراب من الحياة العصرية. وبكلمات الرئيس الأوكراني فإن اختياره جاء لأن الشعب الأوكراني أراد التغيير والحياة الجديدة، وأراد التجريب وأراد قول: “لما لا ؟!
تخيل لو أن أوكرانيا نجحت وازدهرت واقتربت من الغرب ورئيسها ممثل وكوميديان سابق؟ ماذا يتبقى إذن لكل النظم الشمولية الشرقية التي يجب أن يأتي رئيسها من المؤسسة العسكرية او الشرطية أو القضائية؟
حسنا، اليوم 22 فبراير 2022، نحن الآن بعد ساعات من خروج بوتين على شاشات التلفاز الروسي يعلن اعتراف بلاده باستقلال الأقاليم الشرقية من أوكرانيا وتقديم الدعم الكامل لها في استقلالها. وهذا يعني أن هذه الأجزاء أصبحت جزءا من الأراضي الروسية.
وبهذه الطريقة يكون بوتين قد حقق مراده الذي خطط له قبل 8 سنوات. فحين تخلصت اوكرانيا – عبر الانتخابات – من الرئيس الأوكراني المتعاطف مع الكرملين انفعلت موسكو وكان ذلك أحد أسباب ضمها لشبه جزيرة القرم.
ووفق وجهة نظر خبراء أوربيين فإن روسيا بتلك الخطوة التي قامت بها في 2014 تريد أن تقول “إما نظام حاكم في كييف يراعي مصالح موسكو ضد الغرب أو بلقنة البلاد”.
ظهر مصطلح البلقنة قبل نحو ثلاثة عقود حين خاضت شعوب البلقان (في جنوب شرق أوروبا) حروبا نحو الاستقلال عن السلطات المركزية الشمولية التي جمعت كل الشعوب في وحدة قسرية فتولدت جمهوريات صغيرة قزمية تحارب بعضها بعضا وتخوض في مذابح أهلية.
البلقنة هي إذن سياسة تفتيت وشرذمة أي دولة محيطة بالقطب الروسي الكبير كي لا تكون هناك فرصة لنمو دولة وسيطة تتخذها القوات الغربية مدخلا إلى روسيا الكبرى.
البلقنة هي الحل الآمن لروسيا التي يعتقد الناس الآن أنها ستخوض حربا مفتوحة لاحتلال العاصمة كييف.
وقد قلت قبل أسبوع إنه لا يوجد أي تقدير منطقي بأن تسعى موسكو لاحتلال كييف.
لكن أدهشني أن وزارة الدفاع البريطانية نشرت خريطة قبل يومين توضح فيها محاور غزو بوتين للعاصمة كييف في الأيام المقبلة.
ومن وجهة نظري فإن نشر هذه الخريطة وإغراق الإعلام العالمي بأخبار بكل اللغات عن قدرات روسيا الرهيبة لغزو أوكرانيا هو فخ كبير لجرجرة بوتين للوقوع فيه بمحض إرادته وغرور سنواته الأخيرة.
دخول بوتين في هذه السن وهذه الفترة لحرب مفتوحة كبيرة ستكون النهاية الحقيقية لنظامه وستكون فرصة للداخل المعارض للتذمر من الوضع خاصة أن روسيا ليست دولة كبيرة ديموغرافيا (150 مليون نسمة فقط هو في الحقيقة حجم سكاني لا يليق بدولة عظمى، ويعد أحد نقاط ضعف روسيا عالميا).
ولأن بوتين والذين معه أذكى من الوقوع في هذا الفخ فقد مضوا إلى النهاية في اللعبة: استعراض عضلات عسكرية في بيلاورسيا، تهديد بالغزو، ثم في النهاية إعلان (بتحصيل حاصل) وهو الاعتراف باستقلال شرق أوكرانيا.
هذه ليست نهاية القصة الدموية المأساوية، هناك خياران رئيسان في المستقبل:
– برحيل بوتين قريبا أو بعد حين – لأسباب صحية والتقدم في العمر – سيحل محله رجل جديد غالبا من نفس المؤسسة وهنا ستكون الخيارات مفتوحة من جديد أمام التطورات في الداخل الروسي. يدين الشعب الروسي لبوتين بالكثير خاصة في لملمة الأراضي الروسية من البلقنة والتشرذم خلال عشرين عاما، لكنه سيكون حرا مع أي وجه لرئيس جديد وستكون المطالب مختلفة عنها حاليا.
– تراهن أوكرانيا على أن الخسائر الجغرافية مؤلمة حقا لكنها لا تقارن بمكاسب ترسيخ نظام ديموقراطي حر للشعب الذي لا يريد أبدا العودة للنظام الشيوعي ولا يريد العودة إلى الاستبداد الشرقي وتغريه أضواء ومكاسب الحياة الغربية.
الخريطة ما تزال مفتوحة، والحروب والمدافع والدماء لا تغلق ملفات قديمة بل تعيد فتحها من جديد.