ثقافة

مشاعل إسلامية (8): التوحيدي.. و”الإمتاع والمؤانسة”

أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس (310 ـ 414 هـ/ 922 – 1023 م) مفكر إسلامي كبير وأديب فذ، ومثقف مُلِم بمعارف عصره من نحو ولغة وشعر وأدب وفقه وفلسفة، وقد وصفه لنا ياقوت الرومي في “معجم الأدباء”، فقال عنه: “فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق المتكلمين، ومتكلم المحققين”.

وقد كان التوحيدي هو الذي نسب نفسه إلى التوحيد، مثلما وصف “ابن تومرت” أتباعه بالموحدين، وكما أطلق صوفية الفلاسفة على أنفسهم أهل الوحدة والاتحادية. ومن يستعرض كتب التوحيدي، لابد أن يلحظ أن كلمة التوحيد تتكرر كثيرا، إلى الدرجة التي يصعب معها حصر الأماكن التي وردت فيها؛ فهو يجعل التوحيد مقياسا يُحدد قبوله لعلم ما أو رفضه إياه؛ حيث يقول “وأنا أعوذ بالله من صناعة لا تحقق  التوحيد ولا تدل على الواحد الأحد”.

معجم الأدباء

نظرية الإشراق

رغم ذلك فإن المتتبع لآراء التوحيدي يجده لا يُصرح بما يعتقد من المذاهب الإسلامية؛ بل يعتمد على نقل ما يميل إليه من آراء دون إظهار اعتقاده لها. والملاحظ، أنه يُثبت على نفسه أنه غريب النِّحلة حيث يقول “فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النِّحلة”.

إلا أنه يُعبر عن اعتقاداته ذات الأصل الأفلاطوني المحدث، والتي تظهر في نظرية الإشراق أو الفيض السماوي؛ حيث يذكر في كتابه “المقابسات” أن الله تعالى “هو البارئ الحق الأول، والأحد منبع الأشياء كلها، وهي عنه تفيض فيضا” وأنه سبحانه “هو الفاعل الأول، وهو علة كل ما يرى ويوجد ويعقل ويحس”.

وتبعا لذلك فإن العقل عند التوحيدي هو “قوة إلهية أبسط من الطبيعة والعقل هو خليقة الله وهو القابل للفيض الخالص الذي لا شوب فيه ولا قذى” بحسب تعبيره في كتابه “الإمتاع والمؤانسة”. وعليه.. فإن بلوغ الدرجات العليا يكمن في المعرفة التي غايتها الاتصال بالخالق؛ حيث يقول “المعارف الصحيحة معرفة الله الواحد الحق باليقين الخالص” مؤكدا أن “غاية المعرفة الاتصال بالمعروف”.

هكذا يبدو تأثر التوحيدي بالفلسفة الأفلاطونية المحدثة. ومن أظهر أحوال التوحيدي تأثرا بها، كتمانه تاريخ ميلاده ومكان ولادته وحاله في صغره وحال أسرته؛ حيث تقوم الأفلاطونية على الإيمان بأن كل عنصر دنيوي محسوس هو “صورة فقيرة أو زائفة لمثيله الأعظم والأسمى” وهذه الفكرة تمتد إلى الجسد؛ ولذلك كان أفلوطين يرفض رسم صورة شخصية له، كما لم يناقش أبدا أصوله العائلية أو طفولته أو محل ميلاده؛ تماما كما هو الحال عند التوحيدي التي تعتبر بداية حياته حلقة مفقودة.

مؤلفات التوحيدي

وقد عاش التوحيدي خلال القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) في بيئة سياسية حافلة بالفوضى وذيوع الفتنة والاضطراب، وتفشي الإرهاب السياسي والاضطهاد المذهبي. بل إن ذلك العصر الذي نشأ فيه التوحيدي كان قد شهد بداية التدهور السياسي للخلافة العباسية، وتفكك الأمصار، وازدياد تفاقم الصراعات الطبقية والعرقية. ولعل ذلك ما يفسر اندفاع التوحيدي إلى محاولة الاتصال بالوزراء والوجهاء؛ إذ كان هذا الاندفاع طلبا للرزق وسعيا وراء المال والشهرة (وهو سلوك شارك التوحيدي فيه معظم مثقفي ذلك العصر).

رغم هذا فقد كان ذلك العصر من جهة أخرى، هو عصر رقي الحياة العقلية وتقدم العلوم والفنون، وتألق ووفرة المجالس العلمية والثقافية إلى درجة أن بغداد (عاصمة الدولة حينذاك) كانت قد ازدانت بثمرات تلك الحضارة المادية والمعنوية؛ بل وازدحمت بالكثير من نوابغ الأدب والفلسفة وعلوم الدين، من أقطار الدولة الإسلامية (مثل ابن سينا، والخيام، والمعري، والباقلاني، والصاحب بن عباد، وابن النديم، وغيرهم).

وقد ظهر كل ذلك في كتابات أبي حيان التوحيدي، التي عكست صور تلك الحياة الثقافية والتألق الحضاري في شتى جوانب الدولة الإسلامية، حتى عَدَّه البعض “المرآة الناصعة” لثقافة القرن الرابع الهجري، وسجلًا وعنوانًا دقيقًا لثقافة القرن بأكمله في تاريخ التراث العربي الإسلامي.

ولعل أهم ما يمكن ملاحظته هنا هو ما تميز به التوحيدي من ثقافة موسوعية وخصوبة في الإنتاج؛ إذ كان قد ألّف في أغراض عدة، وكتب في أكثر من قضية. ولولا أنه أحرق كتبه في آواخر أيامه لكانت الفائدة منها أعم. وقد أورد “الحموي” في معجمه ثبتًا بأسماء بعضها.

ومن أهم كتب التوحيدي المطبوعة التي وصلت إلينا “رسائل أبي حيان التوحيدي” (تسع رسائل) و”المقابسات” ويشتمل على 106 مقابسة أو محاورة بين العلماء، تدور حول التعاريف الفلسفية والطبيعيات والمنطق والإلهيات و”الهوامل والشوامل” ويشتمل على أسئلة في موضوعات أدبية ولغوية وفلسفية وكلامية، وجهها التوحيدي إلى صديقه “مسكويه”  فأجاب هذا عنها. فضلًا عن “البصائر والذخائر” وهو كتاب ضخم يشتمل على معارف متنوعة في ما بين الأدب والتفسير والشعر والنثر والتاريخ والفكاهة والفلسفة والتصوف. ثم “الإمتاع والمؤانسة” وهو كتاب مؤلف من ثلاثة أجزاء، ويعد من أضخم كتب التوحيدي وأكثرها أهمية ونفعًا.

رسائل أبي حيان التوحيدي

الإمتاع والمؤانسة

ينفرد هذا الكتاب بإيراد وثيقتين مهمتين، الأولى هي النص المتعلق بمؤلفي إخوان الصفا؛ والثانية هي المحاورة التي دارت في بغداد عام 326 هـ بين العالم النحوي أبي سعيد الصيرافي، وعالم المنطق متى بن يونس، حول المفاضلة بين النحو العربي والمنطق اليوناني، تلك المناظرة الشهيرة التي تشير إلى قصة النزاع بين النحويين والمناطقة. وعبر هذا الكتاب نفسه يمكن وضع اليد على أهم ملمح لـ”رؤية” التوحيدي، وموقفه من أهم القضايا الإشكالية في تاريخ الفكر الإسلامي.. ونعني بها قضية الدين والفلسفة.

يقول التوحيدي “الفلسفة حق، لكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حق لكنها ليست من الفلسفة في شيء. وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه. أحدهما مخصوص بالوحي، والآخر مخصوص ببحثه. هذا يقول أُمرت وعُلمت وقيل لي وما أقول من تلقاء نفسي، وهذا يقول: نظرت واستحسنت واستقبحت”.

ولعل هذا لا يوضح، فقط، أن التوحيدي ينتمي إلى دراسة في الفكر العربي والإسلامي، ترى ضرورة “الفصل” بين الدين والفلسفة؛ ولكنه أيضا يفسر ثورة التوحيدي على كل من يقول بالجمع أو “الدمج” بينهما.

أبي حيان التوحيدي الإمتاع والمؤانسة

رغم ذلك، فقد اهتم التوحيدي بتمجيد الفلسفة التي عدّها صناعة، لابد أن تنتهي بصاحبها إلى “التوحيد الصافي من الشوائب ومظاهر الشك”. وقد أسس رأيه هذا على أن الفلسفة هي “بحث عن جميع ما في العالم، مما ظهر للعين، وبطن للعقل، وما ركب بينهما من غير هوى يمال به على العقل” كما قال في كتابه “المقابسات”.

وأيًا يكن من أمر الاتفاق أو الاختلاف مع رؤية التوحيدي حول الفصل بين الدين والفلسفة؛ إلا أن الثابت أن التوحيدي كان قد قام بدور مهم في تاريخ الفكر الإسلامي. إذ إنه قَرَّب بأسلوبه الأدبي السلس البسيط، الفلسفة من الجماهير، بل إنه أحالها إلى ثقافة شعبية ينهل عامة الناس من معينها شتى أنواع المعرفة.

لهذا استحق أن يوصف بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، كما ذهب إلى ذلك ياقوت الروم في “معجم الأدباء”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock