مقدمة: مما لا شك فيه أن المفكر المغربي علي أومليل من المفكرين الرواد الذين أسهموا في تأسيس الفكر العقلاني المعاصر، وهو التأسيس القائم على إعادة النظر في الأدوات والمقاصد والقراءات المرتبطة بالتراث والعلوم الإنسانية قاطبة. حيث يتميز فكره بالدقة والتحديد والإيجاز، وفي نفس الوقت بالقلة في التأليف والاشتغال على المفاهيم النظرية المتعلقة بالأفكار والوظائف والأهداف التي تسهم في بلورة قراءة جديدة تتسم بالإضافة والكشف والتفسير والتأويل. ولعل مؤلفاته “الخطاب التاريخي دراسة لمنهجية ابن خلدون” 1984، و”الإصلاحية العربية والدولة الوطنية” و”في شرعية الاختلاف” 1991، و”السلطة الثقافية والسلطة السياسية” 1996، و”التراث والتجاوز” و”أفكار مهاجرة” 2013، ورواية “مرايا الذاكرة”. كلها تبين وتوضح خصائص مشروعه الفكري الذي يتميز بالاشتغال على محاور أربعة رئيسية هي: الدولة، التراث، المجتمع، الثقافة، وهي الرباعية التي تستدعي قراءات جديدة تعتمد على الاستيعاب الجيد للحاضر والعمل على اتباع إستراتيجية فكرية تتجاوز العقبات والعوائق، وتستشرف آفاق الفكر العقلاني التنويري، وهي كلها تستهدف تحديث المجتمع العربي. وفي هذا السياق نجد علي أومليل من الأوائل الذين اهتموا بابن خلدون واشتغلوا عليه، فاعتمد المنهج الخلدوني لكي يقرأ التراث قراءة متمعنة وهادفة، لينطلق تفكيره إلى الأداة المسئولة عن تسيير الأمور أي الدولة الوطنية. ومن هنا انطلق علي أومليل في قراءته للتراث من زاويتين: الأولى زاوية المكونات المعرفية التي يتأسس عليها ذلك التراث. والثانية زاوية تلقي التراث عن القدامى والمحدثين عربيا وغربيا. فرؤيته المختلفة للتراث تتمثل في التحول من اعتماد النماذج النظرية الجاهزة إلى نقد أنماط تلقيها وإلى مساءلة العقل العربي في علاقته بذاته أولا، ثم في علاقته بالأخر. وهنا يقول أومليل أحاول أن أقرا التراث، لكن ليس بعقل تراثي، بل بفكر نقدي. ثم إني لا اعتبر التراث منجما لأستخرج منه معادن نفيسة تصلح للتبادل النافع في العالم، وأن إحياء التراث من أجل أن نحيا به اليوم هو قضية التراث وليس قضيتي. ومن هنا نستطيع القول أن قوة المشروع الفكري عند علي أومليل تتمحور حول تجديده للأسئلة وفي مراجعاته وإعادة ترتيبه للأولويات وفي الدور الذي يمكن أن يضطلع به المثقف في الإصلاح وفي التغيير. وهذا يبدو جليا في موقفه من الحداثة التي من وجهة نظره يمكن أن توجد في الفكر والاقتصاد والممارسة الاجتماعية، فهي عملية متكاملة، واكتساب معرفة متقدمة، ورفع مستوى المهارات واستيعاب التكنولوجيا.
التراث والحداثة وجدلية التجاوز
يعتبر علي أومليل من المفكرين العرب الذين اهتموا بقضية التراث والحداثة. ولقد سلك في هذا المضمار سبيلا واضحا في بناء نقده الفلسفي لأسئلة التراث والحداثة في فكرنا العربي المعاصر. ومن هنا فقد احتلت قضية التراث والحداثة مكانة مهمة في فكر علي أومليل، وخاصة الحداثة السياسية والاجتماعية. ولذا عمل من أجل تحقيق هذه الحداثة السياسية والاجتماعية. ويشير في هذا السياق إلى أن العرب لم يراعوا تلك الحداثة السياسية والاجتماعية حق رعايتها، ويعتبرها حداثة مرجوة يعاني منها العرب، بل ويعتبرها مشكلة في واقع العرب. فالحداثة في نظر العرب هي مجرد صورة تعنيها نخبة مثقفة تعي تخلف بلدها، وهذا ما يعتبره أومليل مشكلة، لأن الحداثة لا يمكن أن تستمد شرعيتها من ذاتها. وعند تعامله مع التراث يرى أومليل أنه لأبد من تسويات مع الماضي ومفاوضات حتى لو سميت هذه بجدلية التجاوز. وهذا يمكننا من حصر الإشكالية من وجهة نظرنا في السؤال التالي: هل خرج علي أومليل في تحديده لمفهوم الحداثة الفلسفية والسياسية عن المنحنى الفكري الذي كان سائدا ومازال عند المفكرين العرب التحديثين؟ الإجابة من وجهة نظرنا هي عدم خروج اهتمامات علي أومليل في مشروعه الفكري بوجه عام عن الإطار العام الذي تبلورت فيه بقية أفكار عبد الله العروي والجابري. وهي نقطة زوال التراث وزوال الحداثة في الحاضر المغربي والعربي. ودائما ما يعالج أومليل الظواهر النصية التراثية وإشكالية المنظور الحداثي من وجهة نظر البحث عن الحداثة السياسية والاجتماعية. ومن هنا يرى أومليل أن قبول المثقفين للفكر الجديد يجب أن يجعلهم يفيدوا منه في تجديده وبنائه. ويرى أننا عندما نسلم بأن التراث هو هويتنا الحقيقية، فنحن نقع فيما يريد الغرب إيقاعنا فيه لإخراجنا من التاريخ وإدخالنا نهائيا في التراث. ويسعى هنا أومليل للانتقال من الماضي إلى الحاضر من السكون إلى الحياة، من التراث إلى التاريخ بعد أن أصبحنا أمة على هامش التاريخ. هنا تتضح فكرة تجاوز التراث إلى الحداثة، بحيث لا نتقوقع داخل التراث ونعيش فيه. إن أومليل يرى التحول من النص إلى المجتمع؛ فنحن من وجهة نظره نعيش حالة من التخلف والتبعية لا ترجع فقط إلى الاستعمار الخارجي، بل أيضا الى الاستبداد الداخلي الذي يستند إلى سلطة النص. ولن يتم ذلك التحول إلا بنضال فكري جاد لتأسيس واقع جديد وحر.. كما يشير أومليل.
ومن هنا يشير أومليل في كتابه التراث والتجاوز إلى أننا سنظل نتجادل حول التراث؛ لا لأنه يشكل هويتنا اليومية، بل لأننا لم ننفصل عنه هيكليا. والسؤال كيف ننفصل عنه؟
يرى اومليل أن أول خطوط الانفصال الأكيد يجب أن يوفرها مسلسل ثوري أو تسلسل ثوري يختصر الطريق بالثورة، فتفصل المجتمع في آن واحد عن التبعية الاستعمارية ومخلفاتها وعن هياكل المجتمع القائم. من هنا يتضح لنا أن رفض كون التراث هو هويتنا يعني رفض أن نظل في نطاق تقاليد المجتمع القديم.
شرعنة الاختلاف
لقد اهتم أومليل بالاختلاف، فهو يراه حقا مشروعا للجميع من أجل إرساء قيم الحوار والديمقراطية. وهو يقسم الاختلاف إلى قسمين: الأول اختلاف داخل المعتقد الواحد، إلا أن الأطراف المختلفة تسلم مع ذلك بمجموعة من الثوابت العقدية المشتركة. وهنا يكون الاختلاف في مستوى التأويل، فهناك نصوص واحدة إلا أنها تؤدي إلى تعدد المعنى، ويتم تأويلها تأويلات مختلفة تقام عليها أنساق من المذاهب. وخير مثال على ذلك مذاهب الفقهاء وفرق المتكلمين. النوع الثاني من الاختلاف يتمثل في اختلاف مفكري الإسلام مع الأطراف المناهضة لهم والمختلفة معهم عقائديا. وهذا النوع من الاختلاف يركز عليه أومليل. أي الاختلاف بين المسلمين والذين هم خارج دائرة المعتقد المشترك. ويشير أومليل إلى حقيقة مهمة أن هناك كيفيات ومستويات متعددة للاختلاف، إلا أن في المجتمعات التقليدية يظل جوهر الاختلاف يمثله الاختلاف الديني. وفي هذا السياق يشير أومليل إلى أنه في المجتمع الإسلامي التقليدي أعطى الدين السائد للأديان الكتابية أي اليهودية والمسيحية دون غيرها شرعية وحدود التواجد معه. ويضرب أومليل مثلا للاختلاف والجدل الفكري الثري الذي نشأ بين المعتزلة وأتباع العقائد الفارسية القديمة وخاصة المانوية. والذي يهم أومليل في هذا الجدل هو نتائجه في تكوين فكر حجاجي في المذاهب والعقائد. ويرى أومليل أن هناك كيفية أخرى لتصور المثقف المسلم للاختلاف مع الآخر، نتج عن احتكاكه بمجتمع مختلف عنه. وهذا النموذج يوجد عند الرحالة المسلمين سواء كانوا رحّالة فحسب مثل ابن بطوطة، أو رحّالة جغرافيين مثل المسعودي. ويربط أومليل في حديثه عن الاختلاف بينه وبين الديمقراطية، فالنظام الديمقراطي الحقيقي يسلِّم بالاختلاف ويشرع له، وينظمه ويبني عليه، فهو نظام يسلِّم بتعددية الآراء والعقائد والمصالح.
صفوة القول: أن علي أومليل مفكر حاول أن يقدم رؤية جديدة للتراث والحداثة، وحاول أن يتجاوز التقوقع داخل التراث، فهو لا يمثل الهوية الحقيقة لنا من وجهة نظره. ولذا يجب الانطلاق إلى آفاق الواقع والمجتمع الراهن بكل ما فيه من تقدم وتحديث. أيضا أكد أومليل على حق الاختلاف وشرعيته من أجل بناء حوار مجتمعي، وترسيخ قيم الديمقراطية.