ثقافة

مفهوم الدين (6): الذاتي والموضوعي.. في الدين القيِّم

ضِمْنَ خمسٍ وتسعين موضعا وردت فيها لفظة الدين في كتاب الله العزيز، وردت لفظة الدِّينُ مرتبطة مع لفظة الْقَيِّمُ ومشتقاتها؛ ليشكلا معا مصطلح “الدِّينُ الْقَيِّمُ”.. وقد ورد هذا المصطلح، في كتاب الله في أربعة مواضع [الروم: 30، الروم: 43، يوسف: 40، التوبة: 36] هذا بالإضافة إلى ورود مصطلح “دِينُ الْقَيِّمَةِ”، مرة واحدة [البينة: 5] ووردت صيغة الأمر “أَقِيمُوا الدِّينَ” مرة واحدة أيضا [الشورى: 13].

وهنا وفي محاولة لمقاربة هذا الاصطلاح، فإن المدخل إلى هذه المقاربة، هو الاقتراب من أهم الدلالات التي تتضمنها لفظة “القيم” في اللسان العربي.. و”القيم” جاءت من المصدر “قَوْم” (في الأساس: مصدر قام) وهو اسم جمع، له في اللسان العربي أصلان صحيحان: الأول جماعة من الناس والثاني العزم.

معنى “قَوْم” لسانيًا

في ما يتعلق بـ”جماعة من الناس” يتضمن اسم الجمع معنيين اثنين: أولهما: جماعة من الرجال فقط –قَوْم جمع امرئ كما أن النساء جمع امرأة– وجاء بهذا المعنى في قوله سبحانه وتعالى: “يأيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ…” [الحجرات: 11]. وبنفس المعنى جاء في قوله تعالى: “وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ” [هود: 78]. وهنا نلاحظ أن “قَوْمُهُ” و”قَوْمِ” كما وردت في الآية، تعني حصرًا جماعة من الرجال (جمع الذكور) حيث جاء  ختام الآية “أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ”.

أما ثاني هذه المعاني، فهو جماعة من الناس رجالًا ونساءً. وجاء بهذا المعنى في قوله سبحانه “وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ” [هود: 89]. وبنفس المعنى جاء في قوله تعالى “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ” [إبراهيم: 4]. وهنا نلاحظ كيف حددت الآية القوم باللسان، وكيف عرّفت البيان “لِيُبَيِّنَ لَهُمْ” بأنه وظيفة اللسان “بِلِسَانِ قَوْمِهِ”.

 ومن خلال هذين المعنيين يمكن الإشارة إلى أن أصل “جماعة من الناس” الذي يتضمنه المصدر “قَوْم” يفيد الجماعة العاقلة التي تحمل أداة تفكير واتصال (لغة مشتركة). ولعل هذا يتبدى بوضوح إذا لاحظنا كيف أن التنزيل الحكيم يورد صيغة الفعل قال مع المصطلح قوم، كما في قوله سبحانه “قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي…” [هود: 78] وكما في قوله تعالى “فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ…” [الأعراف: 79] وكما في قوله “قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ” [الحجر: 62].

وأيضًا يتبدى بوضوح إذا لاحظنا كيف أن دعوات الرسل إلى أقوامهم كانت تبدأ بفعل الأمر، كما في قوله سبحانه “لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ…” [الأعراف: 59] وكما في قوله تعالى “وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ” [الأعراف: 65].

لاحظنا كذلك كيف أن كتاب الله العظيم قد أسبغ العديد من الصفات على “القَوْم” كجماعة عاقلة من الناس تحمل أداة تفكير واتصال في مجال التعقل “لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [الرعد: 4، النحل: 12، الروم:24] وفي مجال التفكر “لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [يونس: 24، الرعد: 3، النحل: 11] وكذلك في مجالات التذكر والتقوى والإيمان.. وغيرها كثير.

أما في ما يخص “العزم” كواحد من أصلين صحيحين لـ”قَوْم” في اللسان العربي.. فيفيد حال عمل فيه الظرف. وكما يبدو فإن أصل “العزم” يتكامل مع ما يشير إليه أصل “جماعة من الناس” من معان.

فـ”القائم” بالشيء من ثبت عليه وتمسك به. وبهذا المعنى جاء قوله سبحانه “لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ” [آل عمران: 113] والقَوَّام على أمر ما المتكفل به المَعْنِي بشأنه. وبهذا المعنى جاء قوله تعالى “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ…” [النساء: 34] والقيوم القائم بالأمر، وهو من أسماء الله الحسنى، ويفيد القائم بنفسه مطلقًا لا بغيره، ولا وجود لغيره ولا دوام لوجوده إلا به. وبهذا المعنى جاء قوله سبحانه وتعالى “اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ…” [البقرة:255، آل عمران: 2].

وبناءً على ذلك، يمكن مقاربة أهم الدلالات، التي تتضمنها وتشير إليها وتدل عليها لفظة القيَّم ومشتقاتها في اللسان العربي.. فـ”القيم” ما يقوم عليه الأمر فيقوّمه ويتقوم به، و”قَيِّم القَوم” الذي يقُوِّمُهم، و”أمر قيم” ذو قِيمة.. أما “قِيمَا” بالكسر فمن الِقَيم وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء. و”القِيمية” واحدة القِيمَ، أي ما يساويه الشيء بالتقويم و”القَيمِّة” من القَيِّم، والهاء للتأنيث.

فماذا إذًن عن لفظة القيم ومشتقاتها، من حيث ورودها مرتبطة بالدين؟

اصطلاح “الدِّينُ الْقَيِّمُ”

ضمن المواضع الأربعة التي ورد فيها اصطلاح “الدِّينُ الْقَيِّمُ” سنحاول بحكم المساحة المتاحة، الاقتراب من اثنتين منها.. الأولى هنا والأخرى في حديثنا القادم بإذن الله تعالى.

ـ من تلك المواضع التي ورد فيها اصطلاح “الدِّينُ الْقَيِّمُ” قوله سبحانه وتعالى “مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [يوسف: 40].

وهنا نلاحظ أن “الدِّينُ الْقَيِّمُ” كاصطلاح قد ورد مُعَرفًا أي مصحوبًا بألف ولام التعريف؛ وأهم دلالات التعريف في اللسان العربي أن يعبّر الاصطلاح عن “المعنى نفسه”. وللتأكيد ورد “الدِّينُ الْقَيِّمُ” مصحوبًا بـ”ذلك” للإشارة إلى ما تقديره أن هذا هو نفسه الدِّينُ الْقَيِّمُ –لاحظ أن ذلك في اللسان العربي من ذا، وهو اسم كل مشار إليه مُعايَن يراه المتكلم والمخاطب، والكاف زيدت للمخاطبة، أما اللام فزيدت للتوكيد إذ الأصل في الاسم ذا هو الذال المفتوحة– ونلاحظ أيضا أن “ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ” جاءت مسبوقة بجملة خبرية تُعْلِمنا بذاتها عن أحد أبعاد هذه “القيمومة” وهو البعد الذي يتحدد بمسألتين أساسيتين.. الأولى “إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” وهي مسألة موضوعية لا علاقة لها بالاختيار الإنساني إذ جاءت الْحُكْمُ أي القول الفصل مُعَرَّفة يليها الاستثناء “إِلَّا لِلَّهِ”.. والثانية “أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ” وهي مسألة ذات صلة بالاختيار الإنساني، لأن من الناس من يقوم بتنفيذ هذا الأمر ومنهم من يقف دونه.

لنا أن نفهم إذن من سياق الآية أن كلا من المسألتين، الموضوعية “إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” والذاتية “أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ” يشكلان معا أحد أبعاد “الدِّينُ الْقَيِّمُ”.. يؤكد هذا أن المسألتين جاءتا معًا غير معطوفتين في سياق واحد تمثله جملة خبرية.. ويؤكده أنه تعالى ختم الآية بقوله “وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.

ـ ومن تلك المواضع، التي ورد فيها اصطلاح “الدِّينُ الْقَيِّمُ” قوله سبحانه وتعالى: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [الروم: 30].

وهنا فإن الملاحظة التي نود أن نسوق هي تلك المتعلقة بالعبارة التي وردت بنفس الألفاظ، حرفيًا في الآيتين [يوسف: 40، الروم: 30] أي قوله سبحانه وتعالى “ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”. ولعل أهم ما يأتي في هذا الشأن هو ما تتضمنه العبارة من معنى في ذاتها، وما تشير إليه من ربط واضح وتأكيد لما بين الآيتين من “تكامل”.

كيف(؟)… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock