ابن سينا أو الشيخ الرئيس، أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن سينا (370 ـ 428 هـ) كان بالفعل شيخًا ورئيسًا.. كان شيخًا أي أستاذًا مُكَرِسًا لرؤية فلسفية خاصة؛ وكان رئيسًا أي قطبًا لرحى التفكير الفلسفي في عصره وما بعد عصره. وإذا كانت هذه الصورة لا تنطبق عليه تمام الانطباق أثناء حياته، فإن ذيوع مؤلفاته بعد وفاته، جعلته “المرجع” الذي يفسر ما قبله وما بعده، بشكل يدعو إلى الانتباه والتأمل.
والواقع أن ابن سينا، كان قد تتلمذ على كتب الفارابي؛ وكان في الوقت نفسه قد تبنى المنظومة الفكرية (الميتافيزيقية) التي شيدها الفارابي، فاعتمد تقسيمه للوجود إلى “واجب” و”ممكن” واتخذ منه منطلقًا لإعادة بناء تلك المنظومة؛ هذا فضلًا عن أنه احتفظ بنظرية “الفيض” الفارابية، وربط مثله السعادة بالمعرفة الكاملة بـ”مبادئ الموجودات”.. إلا أن ابن سينا كان قد أدخل تعديلًا على نظرية الفيض، تعديلًا أصبح الفيض بمقتضاه ثلاثي القيمة، وليس ثنائيًا كما كان عند الفارابي.
تقسيم الوجود
بناءً على هذا التعديل، قسم ابن سينا الوجود إلى ثلاثة أصناف: واجب الوجود بذاته (الله) ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بغيره (العالم) ممكن الوجود (الحوادث). تلك هي “القسمة العقلية” التي انطلق منها ابن سينا في بناء نموذجه الخاص؛ وهي نفس القسمة التي يزهو بها زهوًا كبيرًا، كونها مكنته –حسب رأيه– من إقامة الدليل على “وجود الله” استنادًا فقط إلى تأمل فكرة الوجود. وفي رؤيته.. فإن هذا الدليل هو “أوثق” و”أشرف” الأدلة.
أوثق الأدلة لكونه “يقوم على الاستدلال بالعلة (الله) على المعلول (المخلوقات)” وهو أشرفها لأنه “يجعل الله شاهدًا على مخلوقاته” وذلك بعكس أدلة المتكلمين والفلاسفة التي تجعل المخلوقات أو الحركة دليلًا على خالقها أو محركها، ومن ثم كان هذا الدليل خاصًا بـ”الصديقين الذين يستشهدون به لا عليه” بحسب تعبير ابن سينا في كتابه “الإشارات والتنبيهات”.
وفي ما يبدو فإن ابن سينا لم يتجه نفس التوجه الذي كان للفارابي، ولكن اتجه اتجاهًا آخر أكثر انسجامًا مع اتجاه التاريخ في عصره؛ الذي كان عصرًا للتمزق الاجتماعي والسياسي، بل والعقيدي والأيديولوجي أيضًا.. عصرًا أخذت فيه الحضارة العربية الإسلامية تشق طريقها سريعًا نحو التراجع. ومع ذلك فقد كان عصرًا لازدهار الفكر والثقافة في مختلف الميادين. ففي كل مجال من مجالات الفكر والثقافة، نجد هذا العصر يمثل قمة غالبية العلوم والفنون التي ذخرت بها الحضارة العربية الإسلامية.
ولعل ذلك كان أهم الأسباب الدافعة إلى اعتبار الكثير من المؤرخين لابن سينا بأنه قمة الخط الصاعد الذي يتوج مجهودات الكندي والفارابي في الفلسفة والرازي في الطب. رغم أن الواقع يشير إلى أن الفلسفة التي قدمها ابن سينا كانت هي الأساس الفعلي الذي حقق بناءً عليه وفي إطاره، ما حققه الغزالي والسهرودي كل في مجاله.
الفلسفة الطبيعية
وأيًا كان الأمر، فإن ابن سينا يعد من الفلاسفة الذين أسهموا بنصيب وافر في التأثير على جوانب مهمة من الفكر العربي والإسلامي في مراحل تالية؛ بيد أن الملاحظة التي نود أن نسوق هنا، هي ذلك الجانب من الفلسفة السينوية الذي لم ينل –رغم أهميته– العناية التي يستحقها، ونعني به مجال الطبيعيات؛ وذلك إذا ما قارناه بالمجالات المنطقية والإلهية عنده، تلك التي نالت اهتمامًا كبيرًا من جانب العديد من الباحثين.
ولعل البحث في الفلسفية الطبيعية عند ابن سينا، يعد على جانب كبير من الأهمية، لأسباب عديدة متنوعة.. منها: أن فلسفته الطبيعية ما تزال مسار خلافات شتى بين العديد من المؤرخين والمؤلفين، وهي خلافات مردها تشعب فلسفة ابن سينا في هذا المجال وارتباطها بنظريات أخرى له في قدم الكون، ونظرية العلل والمعلولات وتقديره للضرورة ونفيه للمصادفة.. ومنها أن فلسفته الطبيعية من أكثر الفلسفات التي ترتبط بالميتافيزيقا، وهذا يتضمن إشكاليات لا حصر لها.. ناهيك عن أن فلسفته الطبيعية تبدو وكأنها الأصل الذي تتفرع عنه بقية نظرياته الأخرى.
ورغم تعدد مؤلفات ابن سينا وتنوعها في مجال الطبيعيات، وفي غيرها من المجالات، فإن كتابه “الشفاء” يأتي كأهم كتبه في الفلسفة، بل من الكتب المهمة في تاريخ الفكر الفلسفي العربي والإسلامي. وقد جمع فيه ابن سينا العلوم الأربعة (منطقيات، طبيعيات، إلهيات، رياضيات).
ومما يشير إلى أثر هذا الكتاب، أننا نجد الكثير من كتب علم الكلام والفلسفة وقد تأثرت به –إلى حد كبير– مثل “المواقف” للإيجي و”المقاصد” للتفتازاني و”العقائد” للنسفي و”الشروح” لصدر الدين الشيرازي.
وفي ما يبدو من خلال كتاب “الشفاء” فإذا كانت العلوم الطبيعية –كما يرى ابن سينا– تدرس الأشياء الواقعة تحت الحواس من الأجسام وأحوالها وما يصدر عنها من حركات وأفعال؛ فإنها بالتالي –حسب ترتيب كتاب الشفاء– تنقسم إلى ثمانية فنون: السماع الطبيعي، السماء والعالم، الكون والفساد، الأفعال والانفعالات، المعادن والآثار العلوية، النفس، النبات، الحيوان.
إشكالية النفس
ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن أكثر الاختلافات الحاصلة حول الفلسفة السينوية، إنما تمثلت في ذلك الفن السادس أي النفس فهو في حقيقة الأمر قد صرف كامل اهتمامه إلى النفس مهملًا شأن العقل، فكان بذلك فيلسوف النفس؛ حيث تتلخص رؤيته في أن “النفس جوهر مستقل عن البدن” وأن “الإنسان غير هذا البدن المحسوس” وأن “النفس تتخذ البدن آلة لها لاستكمال حقيقتها والرجوع إلى الحضرة الإلهية حيث تعيش في سعادة أبدية”.
رؤية النفس بهذا الشكل، تأتي كنتيجة للنظرية التي تبناها ابن سينا ودافع عنها في مختلف كتبه، وانشغل بها أيما انشغال. إنها النظرية التي مفادها إن النفس في الأصل جزء من الإله المتعالي، غرسها الإله الصانع في الجسم البشري، وإنها تمكث مدة في هذا الجسم؛ فإذا هي خضعت لعملية التطهير عادت إلى أصلها الإلهي.
من هنا، نلاحظ حرص ابن سينا في مؤلفاته عمومًا وفي “الشفاء” على وجه الخصوص، على محاولة البرهنة على وجود النفس، وأنها جوهر روحاني مستقل بذاته، وأنها مفارقة وخالدة. إذ إن الإنسان هو “غير هذا البدن المحسوس” بل هو النفس التي يشير إليها كل واحد بقوله “أنا”.
يرتب “ابن سينا” على ذلك نتيجتين: الأولى أن النفس “جوهر روحاني فاض على هذا القالب (البدن)، وأحياه واتخذه آلة في اكتساب المعارف والعلوم حتى يستكمل جوهره بها، ويصير عارفًا بربه عالمًا بحقائق معلوماته فيستعد للرجوع إلى حضرته ملكًا من ملائكته في سعادة أبدية لا نهاية لها”.. والثانية أن السعادة الكاملة الدائمة “سعادة نفسية شخصية تتوقف على التحرر من أدران البدن واستعجال الموت”.
وبالتالي، يبدو الهدف “السينوي” بوضوح ذلك الذي يتمحور حول رسم طريق “الشفاء” للنفس المعذبة في سجن بدنها و”النجاة” عبر حلم أبدي لا يعترف بالزمان ولا بالمكان و”الرحيل” إلى عالم النفوس التي ترتع في بحبوحة السعادة الأبدية.
وأيًا كان من أمر الاتفاق أو الاختلاف مع الفلسفة السينوية، وأطروحاتها، فإن هذا لا ينفي الجهد الذي بذله ابن سينا للعديد من الآراء التي قال بها ودافع عنها.. ولا التأثير الهائل الذي مارسه ابن سينا على من جاءوا بعده، وخاصةً الغزالي والسهرودي.