فن

أحمد حلاوة.. مع السلامة يا ضحكتنا الصافية

على الرغم من سيطرة أحداث الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعياتها؛ خاصة تأثيراتها الاقتصادية والسياسية على العالم.. وعلى الرغم من برودة الطقس بشكل غير معتاد على مصر في تلك الأوقات من العام وما ترتب عليه من تغيرات نفسية وسلوكية في حياة المصريين في مثل هذه الأيام من شهر مارس؛  إلا أن تعرض الفنان أحمد حلاوة لأزمة صحية حادة كان حدثا انشغل به الملايين من عشاق الفنان ومتابعي الفن.. فقد كان تطور حالة حلاوة الصحية محل اهتمام ومتابعة يومية.. لم يكن هذا ليحدث إلا لأن الراحل الكبير يمتلك مكانة كبيرة وفى وجدان المصريين، ليس لأنه فنان مميز وصادق وله رصيد هائل لدى جمهوره فحسب؛ لكن لأنه أيضا كان فنانا يشبه الناس تماما.. يشبه البسطاء العصاميين الذين تعلموا جيدا ومارسوا مهنتهم بإخلاص، وحققوا نجاحا كانوا يستحقون أكثر منه بكثير بالقياس بحجم موهبتهم وقدر عطائهم.

رحل حلاوة بعد رحلة مع المرض وكثير من الشائعات حول وفاته.. رحل الذى منح البهجة قدر ما استطاع ووهب العلم الذى تعلمه للناس؛ دونما بخل أو تنقيط أو إتجار فهو المعلم الأكاديمي النبيل الذى رفض أن يتاجر بعلمه من خلال “كورسات” مرتفعة الثمن عالية التكلفة.. صارت طريقا سهلا ويسيرا للكثيرين.. لكن حلاوة اختار أن يقدم علمه صدقة جارية –على حد وصفه– من خلال أكاديمية حلاوة الفنية على اليوتيوب.

ظل حلاوة مبدعا متجردا من أمراض الشهرة وشهوة الغرور، مدركا لقيمة فنه مؤمنا دوما به.. ورحل عن عمر يزيد قليلا عن 73 عاما تاركا عددا كبيرا من الأعمال المتميزة التي أطل علينا منها بشخصيات مبهرة ومضيئة ومتفاوتة في المساحة لكنها جميعا كانت مؤثرة.

مولده وتكوينه

في السابع من  يناير عام 1949 ولد أحمد صلاح رجب رمضان حلاوة في حارة حلاوة بالدمرداش   لأسرة مكونة من تسعة أطفال رحل منهم طفلين في سن مبكرة، وبقي سبعة أشقاء.. الأب يعمل بالتجارة ضمن العائلة؛ لكن تعليمه الأزهري وكتابته للشعر جعلته  يمتلك مكتبة ضخمة.

كانت الأسرة تهتم بالفنون فكان والده حريصا على اصطحاب الأبناء إلى دور السينما وقاعات المسرح.. ولأن والدته كانت تتقن الحرف والمشغولات اليدوية؛ فقد شغف حلاوة مبكرا بالنحت وتصميم العرائس وبالإضافة إلى ذلك فقد كان عمه فايز حلاوة فنانا مسرحيا لامعا، لكن احمد رفض أن يعمل معه في بداياته حتى لا يشعر بأن عمه يجامله، وقرر أن يختبر موهبته بعيدا عن نفوذ عمه الفني.

عاش أحمد مرحلة طفولته وصباه بين الصعيد والقاهرة وطنطا متنقلا مع الأسرة؛ لكن معظم مراحل تكوينه كانت في ظل مرحلة – في تاريخ مصر- تزايد خلالها الاهتمام بالفنون والآداب.

هو ابن مرحلة مختلفة ينتمي لجيل مغاير، كانت مكتبة الفصل وحصة القراءة الثابتة في كل مراحل التعليم زاده؛ حيث كان أحمد يقرأ الكتب ويتولى شرحها لزملائه، كما كانت الأنشطة الفنية المتعددة في المدرسة المصرية عاملا أساسيا في تهيئة أجيال تحب الفنون وتتذوق الآداب

كما كانت مسابقات المسرح المدرسي تصل لمستوى الاحتراف، حيث يقدم التلاميذ في المراحل الإعدادية والثانوية نصوصا لشكسبير وموليير.. وبعد أن التحق حلاوة بكلية الهندسة، كانت مصر قد أنشات  مركز شباب الجزيرة الذى يمثل أول مراكز الشباب التي دشنتها ثورة يوليو، وكانت الأنشطة به واعدة وتقدمية تهتم بالمسرح وتعلمه للشباب على يد عدد من نجوم مصر ورموز مسرحها حينذاك مثل سعد أردش وعزيزة حلمي وصلاح منصور وغيرهم.

 وكان الشباب المتدرب من جيل حلاوة يضم: أحمد راتب ونور الشريف وسعاد نصر وعائشة الكيلاني وخليل مرسى وأحمد عبد الوارث وغيرهم.

كان المناخ الثقافي والسياسي العام في مصر مهيَّأً لتقدم مواهب لا تتقن الفنون فقط؛ بل تدرك وتعي نظريا ما هي الفنون وما هو دورها في المجتمع.. لذلك ظل حلاوة مدينا لتلك المرحلة التي شكّلت وعيه ووعى جيل كامل حمل بعد ذلك مسئولية الفن المصري مهنيا ونظريا.

من الهواية للاحتراف

حصل أحمد حلاوة على شهادة البكالوريوس في الهندسة تخصص اتصالات عام 1969، بعد ذلك قرر دراسة الفن.. واختار دراسة الديكور وحصل على شهادة دبلوم معهد ليوناردو دافنشي للفنون الجميلة (القاهرة) تخصص ديكور، ثم بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية تخصص تمثيل وإخراج من أكاديمية الفنون بالقاهرة عام 1973، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا في المعهد العالي للفنون المسرحية تخصص إخراج عام 1990، وحصل على درجة الدكتوراه في فلسفة الفنون من جامعة الفن المسرحي والسينما ببوخارست في رومانيا، وكان موضوعها (تقنيات إخراج الكوميديا في المسرح المصري المعاصر) عام 1994، ودرَّس المسرح في كلية الآداب بجامعة حلوان.

كانت بداية حلاوة الفنية مع المخرج الكبير سمير العصفوري  في مسرح الطليعة من خلال مسرحية “كلام فارغ” التي شارك فيها محمد نوح وكانت بداية لميلاد فرقة النهار الفنية التي ظهرت عام 1974، ومن خلال هذا العرض قدم حلاوة سبع شخصيات مختلفة كانت سببا في تعرّف الساحة الفنية عليه.. بعدها انتقل إلى فرقة مسرح الريحاني، وقدم معها “كلام فارغ جدا” ثم جاء بعدها “كوبري الناموس” و”إيزيس” و”كاليجولا” و”دستور يا أسيادنا” و”طرائيعو”.

كما شارك في أفلام “العذاب امرأة” و”شياطين المدينة” و”أقوى الرجال” و”العيال هربت” و”أمن دولت” و”رد فعل” و”الهرم الرابع” و”سمكة وسنارة” و”بيكيا” و”الرجل الأخطر” و”توأم روحي”.

 كما قدّم عددا من المسلسلات منها “دموع في عيون وقحة” و”رأفت الهجان” و”الثعلب” و”أيام المنيرة” و”هارون الرشيد” و”اللص والكتاب” و”نيللي وشريهان” و”الوصية” و”عائلة زيزو” و”هجمة مرتدة” و”الاختيار2″.

ومع عادل إمام شارك في “فرقة ناجي عطا الله” و”العراف” و”صاحب السعادة” و”أستاذ ورئيس قسم” و”عفاريت عدلي علام>”

قدم الفنان الراحل خلال رحلة احترافه للتمثيل مئات الأعمال المتنوعة، لكن الكوميديا كان لها الحضور الأقوى، لأن حلاوة الفنان والمثقف والمعلم كان يرى أن “الكوميديا خليط من الأفكار الاجتماعية وليست متعة بحتة” فقد أتقنها وغاص في النفس البشرية يفتش عن تفاصيل الضحكة الراقية التي لم تعرف يوما الابتذال أو التدني لكنه كان دائما منحازا للقيمة على الأقل فيما يجسده هو من شخصيات.

المبدع والأكاديمي

رغم المسيرة  الفنية الطويلة والتي تقترب من نصف قرن في التمثيل إلا أن موهبة حلاوة لم تستغل تماما ولم تتح الفرصة الكافية له لكى يعبر عن تنوعاتها الدرامية، فالراحل الكبير أحد “الأسطوات”  العظام في فن التمثيل العربي الذين لم تسعفهم ظروف الإنتاج من جهة، ومعايير الاختيار في الصناعة –السينما أو التلفزيون– والتي قد اصابها خلل مخيف خلال العقود الخمس الأخيرة، وأدى ذلك لضياع فرص ذهبية من أهمها فرصة موهبة أحمد حلاوة ومن قبله الموهوب أحمد راتب الذى لولا مشاركاته مع صديقه عادل إمام ما كانت طاقة راتب الإبداعية قد ظهر معدنها النفيس.

كان حلاوة أسطى حقيقي.. أصابته لعنة الأكاديميين في الوسط الفني؛ ويبدو أنها لعنة حقيقة وليست وهما وقد يفسرها البعض بأنها عقدة التلميذ غير النجيب الذى ينجح فجأة؛ فيحاول أن يقصى كل من علموه أو على الأقل لا يدعمهم بما يكفى إلا من رحم ربي منهم.

هي معادلة شديدة التعقيد وتحتاج إلى تفسير وقراءة.. هل هي صدفة ألا تحصل المواهب ذات العمق الأكاديمي على مساحة انتشار لائقة أو تنوع في الأدوار مناسبة؟

ربما هي مجرد صدفة..

لكن أحمد حلاوة الذى أبدع مصمما ومحركا للعرائس ونحاتا وفنانا للديكور، وتألق فيما حصل عليه من أدوار حصل عليها كممثل وتعلم على يديه مئات النجوم في مجالات التمثيل والإخراج.. يستحق أن نحزن عليه.. وهذا ما حدث؛ فمصر بكت حلاوة بصدق بنفس الدرجة التي كان صادقا معها في عمله الفني والأكاديمي.

مصر ودعت حلاوة بما يليق لأنها تدرك أنه كان يستحق مكانة فنيه أكبر بكثير مما حصل عليها في حياته.

مصر تعرف قدر من يحبها بتجرد دونما ذاتية أو ادعاء، وقد كان حلاوة واحدا من عشاقها الأنقياء.. لقد كان ضحكة صافية ستظل باقية تمحنا البهجة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock