لم ينل كتاب اهتماما مثلما حظي به القرآن الكريم، فانشغل به المؤمن وغير المؤمن، فهو عند المؤمن آخر الكتب السماوية الحاملة لكلام الله الذي أنزله للبيان والإعجاز، المحفوظ في الصدور والسطور من كل تحريفٍ المنقول عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالتواتر، المتعبَّد بتلاوته، كما أنّه لغير المؤمن كتاب العربية الأكبر، فهو أقدم نصّ كُتب بالعربية التي نعرفها، وأعلى النصوص العربية لغةً وبلاغةً.
نزل القرآن الكريم منجّما/مفرّقا تبعا للحوادث وحتى يكون أقرب إلى الحفظ وأسهل للضبط وأبعد عن النسيان، على بضعة وعشرين عاما منذ بعثة الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، ٦١٠م إلى أن لحق بربّه ٦٣٣م، وهذا على خلاف ما كان يُريده المنكرون، “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا” [الفرقان:٣٢] وكان تلقّي الرسول الكريم لآيات القرآن عبر المشافهة والتلقين من جبريل عليه السلام، فالنبي أميّ لا يكتب، وعندما خاف الرسول أن يسقط من ذاكرته شيء عند التّلقي، فأخذ يُحرك شفتيه مرددا متعجلا، نزل قوله تعالى: “لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ” [القيامة:١٦،17] فالله هو من يجمعه في صدره ويمنحه القدرة على استذكاره وقرآنه أي قراءته. وبعد أن ينتهى من التلقى عن جبريل يُعيد ما سمع على كاتبه؛ فرُوي أن النبي الكريم كان يقول لأحد الحاضرين: “ادعُ لي زيدًا، وليجيء باللوح والدواة والكتف” وبعد أن يفرغ الكاتب من كتابته لآيات القرآن الكريم، يُراجع ويُدقق النّبي –صلى الله عليه وسلم– الذي كان حريصا على ألا يحدث أي نوع من الخلط، ففي “تاريخ دمشق” لابن عساكر أن النبي –صلى الله عليه وسلم– قال لزيد بن ثابت: “إذا كتبت «بسم الله الرحمن الرحيم» فبيّن السين فيه”. ومما رُوي عن زيد بن ثابت أيضًا، أنّه قال: “كنت أكتب الوحي عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فأكتب وهو يُملي عليّ، فإذا فرغت قال: “اقرأه” فأقرؤه فإن كان فيه سَقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس”. وقد تعدد الكتّاب المكلَّفون بكتابة القرآن الكريم للرسول الكريم؛ حتى وصلوا إلى بِضعة وعشرين شخصا، من أهمهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبَيُّ بن كعب وزيد بن ثابت، وكان جارا للنبي –صلى الله عليه وسلم–.
وقد بدأت كتابة القرآن منذ النزول الأول للوحي في مكة المكرمة، فرواية إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريحة في أنّ أخته وزوجها كانا يقرآن شيئا من القرآن في صحيفة معهما حين دخل عليهما، وكان بينه وبينهما ما كان، ما أدّى إلى إسلامه، فرغم أميّةِ العرب إلا أنّه كان بينهم كتّابٌ، فقبيلة قريش تنظّم تجارة إقليمية تنطلق من بلاد الحجاز؛ متحركة بين الشام واليمن تتنوع وتختلف أسهم العائلات القرشية في تكوين رؤوس أموالها؛ مما يحتاج إلى كتابة، كذلك صحيفة مقاطعة المشركين للمسلمين في مكة تدلّ على أن مكة كان بها كتّاب من الرجال والنساء، وإن كانوا قلةً، منهم على بن أبي طالب وحفصة بنت عمر رضي الله عنهما، وبلغ من اهتمام الرسول بنشر تعليم الكتابة، أنّه جعل تعليم عدد من المسلمين الكتابة؛ فداءًلأسرى بدر المكيين يُحرَّروا به أنفسهم من الأسر، كما تحثّ آيات سورة البقرة المسلمين على استكتاب الدَّين، بما يُؤكد أنّ الكتابة لم تكن بعيدةً عن حياتهم.
من جانب آخر أخذ بعض المسلمين من غير المكلفين بالكتابة يكتبون القرآن لأنفسهم؛ لذا تجنبا للبْس نهى النبي عن كتابة غير القرآن مما يسمعونه منه؛ لئلا يختلط شيء من ذلك بالقرآن، واستمر الاحتياط والمحافظة على أن يكون المكتوب فقط هو القرآن الكريم، فترة خلافة الصحابة الخمس الأوائل، فيُروى أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فكّر في كتابة السنة، ويستشير الصحابة فيشيرون عليه بالكتابة، فيمضي عمر شهرا في الاستخارة حتّى يُصبح يوما -وقد عزم الله له- فلا يُريد أن يكتب السنن، إذ ذكر قوما كانوا قبلهم، كتبوا كتبا، فأكبّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وأنّه والله لا يشوب كتاب الله بشيء أبداً”.
وكان واقع الكتابة عند العرب في عهد النبوة كسائر الأمم ضعيف بطيء لا تتوفر أدواتها بسهولة، مقارنة بالمشافهة أهم أدوات الحصول على المعرفة في ذلك العصر، فكانت الحافظة/الذاكرة، أولى الوثائق التي يُعتمد عليها في حياة العرب ساعدهم على ذلك بيئة اجتماعية وجغرافية وثقافية بسيطة لا تعرف تعقيدا أو تركيبا يشغل عقولهم، فالذاكرة كانت وسيلتهم في تسجيل أنسابهم التي هي موضع عنايتهم، وبالذاكرة كانوا يتداولون أشعارهم التي يتنافسون عليها، فهي تُمثل ذروة البراعة والتفوق عندهم، ومع تكرر نزول الوحي على النبي وتكرر إملاؤه للكتّاب، وتكرر استماع الصحابة من حوله، الذين كانوا يحفظون ويتساءلون حول معانيه وأحكامه، وتكراره في الصلاة التي يؤمهم فيها النبي الكريم، أخذوا يميزون النظم القرآني، ويقفون على أسلوب أدائه، وأخذوا يحفظونه على تفاوت بينهم، ومن أشهر من حفظه كاملا -وفقا لرواية الزركشي -عثمان بن عفان، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت.
نخلص إلى أنّ المرحلة الأولى شهدت مع اكتمال نزول القرآن الكريم مفرّقا، ما يُطلقُ عليه الجمعَ الأول للقرآن الكريم، وهو جمْع يتناسب مع مجتمع المسلمين المحدود مكانيا، على نحو يسمح لأفراده بالتواصل والإسماع والاستماع للقرآن الكريم، حتى القبائل البعيدة عن الحضر، كان يكفيها حافظ يُصلّى بهم ويُعلمهم القرآن مشافهة، فاجتمع القرآن في تلك المرحلة في صدور الحفّاظ، منهم قلة حفظوه كلّه، وكثير منهم حفظ بعضه، كذلك اجتمع في مكتوبات، لم تأخذ صورة المصحف أو الكتاب؛ لتفرّق المواد التي كانت عليها الكتابة، واختلاف أنواعها اختلافا يحول بينها وبين تماسك الصحف في الكتب، فكانت على مسطحات من مواد متابينة متعددة خشبية أو عظمية أو خزفية اختلفت مساحاتها، ولم تكن قد تطورت المواد التي يُكتب عليها القرآن كما سنرى بعد ذلك من كتابة على الرقوق وأوراق الكتان، وكانت الكتابة في هذه المرحلة/المرحلة الأولى في العهد النبوي “بالخط العربي في صورته الأولى التي استقلت عن الخط النبطي، وهي صورة تختلف عن الخط الذي عليه الكتابة الآن ويختلف عن الخط الذي عليه النصوص القرآنية التي كتبت في العصور الأولى من تاريخ المسلمين والموزعة بين المكتبات العامة والمتاحف والمجموعات الخاصة”.
ومن الجدير بالذكر أنّه من المغالطات الشائعة اعتقاد أنّ العرب توحدوا قبل نزول الوحي بمئة وخمسين عاما على لهجة واحدة هي لهجة قريش، فالواقع أن اللغة العربية في حياة النبي الكريم لم تكن قد تهيأ للهجة واحدة أن تُسيطر عليها، فتعددت اللهجات نظرا لاتساع أرجاء شبه الجزيرة العربية واختلاف البيئات فيها، مما كان له أثره في الأداء الشفهي للقرآن الكريم الذي أُنزل على سبعة أحرف/ أوجه من اللهجات إلى حينٍ تيسيرا عليهم، فعندما كان يحدث اختلاف في القراءة بين صحابيين، ناشئ عن اختلاف لهجتهما كانا يسارعان إلى الرسول يسألاه الحقيقة في هذه القراءة التي سمعاها، فيطمئن النبي خاطرهما، ويقول لهما “كلاكما على صواب”، فالأحاديث التي تتحدث عن كون “القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منها”. إنما هي إشارة إلى تلك اللغات/اللهجات العربية التي أقرأ النبي الكريم أصحابَه القرآن عليها، وظلّ مسُموحا بالقراءة بها حتى عهد عثمان رضي الله عنه، ففي عهده جمع الناس على حرف واحد/ لهجة واحدة، وأبطل ما عداه، “وما القراءات العشر المتواترة والقراءات الشاذة إلا بقايا لهذه الأحرف/ اللهجات”، على حد تعبير شيخ الأزهر الأسبق الإمام محمود شلتوت. وهذا ما سيتناوله المقال المقبل.