لكل شارع في مصر حكاية تستحق أن تروي، خاصة للأجيال الجديدة.. كي تعرف بعضا من فصول سيرة بلد يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الذي تمثل شواهده في كثير من شوارعنا.. التي ربما نمر عليها دون أن نعيرها اهتماما.. لذلك سنحاول خلال شهر رمضان المبارك التجول في عدد من شوارع المحروسة العامرة لنروي في سطور قليلة حكاية كل منها.
شارع الصليبة بالسيدة زينب يعد واحدا من أهم شوارع القاهرة الإسلامية، استمد اسمه من تقاطعه مع عدد كبير من الشوارع الأخرى.. ويمتد الشارع بطول 500 متر تقريبا من ميدان القلعة إلى ميدان السيدة زينب، وقد عُرف بهذا الاسم منذ فترة تصل إلى 700 عام ليكون أقدم من بعض دول العالم.
عاش شارع الصليبة عصرا ذهبيا، خلال فترة طويلة من الزمان، امتدت من القرن الرابع عشر الميلادي وحتى منتصف القرن السادس عشر، كان يضم خلالها مجموعة من أهم مقرات الدولة ومساكن كبار أمراء مصر؛ خاصة في العهد المملوكي.. وكان الشارع التاريخي شاهدا على عدد كبير من الأحداث السياسية الهامة خلال تلك الفترة، من بينها الكثير من المؤامرات التي حاكها المماليك ضد بعضهم البعض في إطار صراع طويل علي مراكز النفوذ والسلطة.
ولفترة طويلة كان شارع الصليبة ممرا رئيسيا لمواكب السلاطين؛ حيث يخرج منه السلطان إلى منطقة السيدة زينب، ثم إلى مقياس النيل بجزيرة الروضة.. وتحدث المقريزى عن موكب السلطان برقوق عند ذهابه إلى الصيد بالجيزة، في حوادث شهر ذي القعدة سنة (784هـ/ 1383م) فقال: “وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه ركب السلطان من قلعة الجبل، ومر على قناطر السباع (ميدان السيدة زينب الآن) حتى عدى النيل من بولاق إلى الجيزة وتصيد”.
ويذكر إبن إياس موكبًا آخر للسلطان الغَوْرى، عند قدومه من الفيوم في شهر صفر سنة (922هـ/1516م) فيقول: “وفي يوم الأحد تاسع عشره حضر السلطان من الفيوم وعدى من الجيزة، فلاقاه الخليفة والقضاة الأربعة، فشق من الصليبة… وطلع إلى القلعة في موكب حافل”.
ولم يقتصر الأمر على هذا فحسب؛ بل إن شارع الصليبة كان أيضا مسرحا للتشهير بمن يرتكب مخالفة كبيرة أو نقيصة خاصة من عامة الشعب.
عندما تقودك خطواتك الي شارع الصليبة يوما ما؛ ستدرك منذ الوهلة الأولي أنك في حضرة التاريخ، حيث يمكنك أن تقلب صفحاته، وأن تشهد بعينيك بعضا من آثاره الخالدة؛ فالصليبة ليس مجرد شارع تعبره سيرا علي الأقدام، أو علي متن سيارتك؛ إنه متحف مفتوح مترامي الأطراف يضم مجموعة من الآثار الإسلامية النادرة التي قلما تتجمع في مكان واحد.
كل أشكال العمارة الإسلامية تقريبا موجودة هنا في هذا الشارع العريق، ومازالت تحتفظ بقدر كبير من الروعة التي شيدها بها مصمموها الأوائل العظام؛ ففي شارع الصليبة يمكنك أن تري القصور والأسبلة وكذلك الحمامات والمدارس والمساجد والكتاتيب.
استمد شارع الصليبة أهميته منذ انتقال مقر الحكم في مصر إلي القلعة في العهد الأيوبي، وهو ما جعل الكثير من الامراء يتسابقون علي الإقامة به، كما شيد فيه عدد من المدارس العسكرية.
العمارة المملوكية هي المهيمنة على أغلب المنشآت التاريخية الإسلامية الموجودة بالشارع، وفي نهاية الشارع يقع سبيل السلطان الأشرف قايتباي الذي يتميز بجمال وبهاء زخارفه.. ويضم الشارع مجموعة من أشهر المساجد التاريخية في مصر، من بينها مسجد أحمد بن طولون بطرازه المعماري المتميز، ومسجد الأمير بن تغري، ومسجد السلطان حسن الذى شيده الناصر حسن بن قلاوون الذي اكتسب شهرة عالمية واسعة، وهناك أيضا مسجد الرفاعي الذي أصدرت خوشيار هانم والدة الخديوي إسماعيل قرارا بتشييده.
ظل الشارع لفترة طويلة مقرا للخانقاوات، وهي أماكن تجمع كانت تقام خصيصا للصوفية من أجل أن يتفرغوا للعبادة، وكانت تتضمن كل ما يحتاجون إليه، وأول خانقاة شيدها المماليك في شارع الصليبة، هي خانقاة الأمير علاء الدين البندقداري، وأقيمت في سنة 683 هجرية ولفترة طويلة كان الشارع يشهد مواكب للفرق الصوفية، يتقدمها مشايخهم ويرددون فيها بعضا من أذكارهم وأورادهم. ويتقاطع شارع الصليبة مع شارع أوزبك حيث كانت تقع بركة الفيل، وكان يقع بالقرب منها واحدا من أرقى الاحياء خلال حكم المماليك لمصر، وحولها أقيم عدد كبير من أفخم القصور.
جزء من الأهمية الكبيرة التي تمتع بها الشارع، يرجع إلى موقعه الذى يتوسط أغلب عواصم مصر في العهد الإسلامي، وقد تواصل الاهتمام بالشارع في عهد محمد علي حيث أنشأت فيه المدرسة الحربية، كما بنيت فيه العديد من منازل أبناء محمد علي ومسؤولي الدولة خلال تلك الفترة.