وصفه العقاد بأنه صاحب المائدة الرمضانية الفكرية التي لا تغيب عن الرواق العباسي الأزهري في التاريخ والواقع الأكاديمي حتي اليوم.. يقول العقاد: كنت طفلا صغيرا أحلم باليوم الذي ألتقيه فيه, رأيت الشيخ محمد عبده مرات معدودة، ورأيته مرات لا تُحصَى في صوره الشمسية التي لا تلتبس إحداها ملامح صورة أخرى، فكانت النظرة الأولى كالنظرة الأخيرة إلى تلك الملامح فيما تنمُّ عليه وتشير إليه.. قوة وطيبة متفقتان لا يبين لك أنهما تنازعتا يومًا أو تتنازعان، فهو قوي لا ينازع طيبته نية من نياتها، وهو طيب لا ينازع قوته دافعًا من دوافعها، وهو أقرب الناس سمة بما يرتسم في أخلادنا من سمات النبوة، وهي في طلعتها الإنسانية بشر مثلنا، وإن لم نكن نحن بشرًا مثلها فيما تتلقاه من وحي الله.
مائدة الرواق العباسي وحب المجارورين للإمام
كانت مائدة إمام التنويرفي شهر رمضان بالنسبة للمجاورين في الرواق العباسي، هي الزاد والزواد لكل محبي الشيخ محمد عبده، بل والمختلفين معه.. فتري ابن البشوات الدكتور مصطفي عبد الرازق (شيخ الأزهر فيما بعد) يجادل ويفتح قلبه مع العملاق الكبير مرات عديدة, ثم يدخل شاعر النيل حافظ إبراهيم المائدة العامرة، بصحبة عميد الأدب العربي الدكتورطه حسين صاحب الأسئلة الكثيرة, تري أيضا تلميذه وصديقه صاحب المنار محمد رشيد رضا الذي وصف الإمام محمد عبده “إنه سليم الفطرة، قدسي الروح، كبير النفس، وصادف تربية صوفية نقية زهدته في الشهوات والجاه الدنيوي وأعَدَّتْه لوراثة هداية النبوة، فكان زيته في زجاجة نفسه صافيًا يكاد يضيء، ولو لم تمسسه نار, إن هذا الرجل أكمل مَنْ عرفت من البشر دينًا وأدبًا ونفسًا وعقلًا وخلقًا وعملًا وصدقًا وإخلاصًا، وإن من مناقبه ما ليس له فيه ند ولا ضريب، وإنه لهو السري الأحوذي العبقري”.
عندما اشتعلت الثورة العرابية 1881، كانت مائدة الشيخ محمد عبده تستقبل العرابيين بزعامة عرابي باشا والشاعر محمود سامي البارودي ومحمد عبيد ومحمود حلمي، يتحدث فيهم الشيخ عن إصلاح أحوال مصر, ولما كان الشيخ من أهم منظري الفكر السياسي للثورة العرابية فقد تحمل مرارة الطرد والتشريد من مصر؛ ليخرج مهاجرا لبيروت وتتحول مائدة الشيخ في لبنان قبلة الشام كله، لست سنوات أسس خلالها مدرسة مؤسسة الجمعية الخيرية التي تعمل حتي اليوم, وقبل وصوله بيروت كان قد دخل السجن فترة ليست طويلة، ثم حُكم عليه بالنفي لمدة ثلاث سنوات قضاها بين بيروت وباريس، ثم سافر فترة إلى تونس، كان خلالها في رحاب جامع الزيتونة يحاضر في علوم العقل.
ثم انتقل محمد عبده إلى بيروت سنة 1883م؛ حيث أقام بها نحو عام، ثم ما لبث أن دعاه أستاذه الأفغاني للسفر إليه في باريس حيث منفاه، واستجاب محمد عبده لدعوة أستاذه، حيث اشتركا في إصدار مجلة العروة الوثقى التي صدرت من غرفة صغيرة متواضعة فوق سطح أحد منازل باريس؛ حيث كانت تلك الغرفة هي مقر التحرير وملتقى الأتباع والمؤيدين, وهناك أسس الشيخ مائدة الفكر الرمضاني، وكان يحضرها الشاعر بيرم التونسي ومعظم طلاب المغرب العربي في جامعات فرنسا، وقد أثارت فعاليات الشيخ بباريس مخاوف وهواجس الفرنسيين، وكانت مقالات الإمام تتسم في هذه الفترة بالقوة، والدعوة إلى مناهضة الاستعمار، والتحرر من الاحتلال الأجنبي بكل صوره وأشكاله, واستطاع الإنجليز إخماد صوت العروة الوثقى، فاحتجبت بعد أن صدر منها ثمانية عشر عددا في ثمانية أشهر.
مائدة بيروت والشام ومحبي الإمام
عاد الشيخ محمد عبده إلى بيروت سنة 1885، فقررأن يشغل وقته بالتأليف والتعليم، فشرح “نهج البلاغة” ومقامات بديع الزمان الهمذاني، وأخذ يدرّس تفسير القرآن في بعض مساجد بيروت، ثم دُعي للتدريس في المدرسة السلطانية ببيروت، فعمل على النهوض بها، وأصلح برامجها، فكان يدرّس التوحيد والمنطق والبلاغة والتاريخ والفقه، كما كتب في جريدة “ثمرات الفنون” عددًا من المقالات تشبه مقالاته في “الوقائع” وبالرغم من أن مدة نفيه التي حكم عليه بها كانت ثلاث سنوات؛ فإنه ظل في منفاه نحو ست سنين، كانت خلالها مائدة الشيخ تستقبل محبيه من الشام كله ومن العراق، فلم يكن يستطيع العودة إلى مصر بعد مشاركته في الثورة على الخديوي توفيق، واتهامه له بالخيانة والعمالة، ولكن بعد محاولات كثيرة لعدد من الساسة والزعماء، منهم سعد زغلول والأميرة نازلي ومختار باشا، صدر العفو عن محمد عبده سنة 1889، وآن له أن يعود إلى أرض الكنانة, وعُيّن قاضيًا بمحكمة بنها، ثم الزقازيق ثم عابدين، ثم عين مستشارًا في محكمة الاستئناف 1895, وكان قد تعلم اللغة الفرنسية حتى تمكّن منها، فاطلع على القوانين الفرنسية وشروحها، وترجم كتابًا في التربية من الفرنسية إلى العربية، ثم صدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ حسونة النواوي، وكان الشيخ محمد عبده عضوا فيه، وهكذا أتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لتحقيق حلمه بإصلاح الأزهر، وهو الحلم الذي تمناه منذ أن وطئت قدماه ساحته لأول مرة.
وفي عام 1899، عُيّن مفتيًا للبلاد، وعادت مائدته العامرة بحضور الشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ علي عبد الرازق وسعد زغلول وقاسم أمين وحافظ إبراهيم وعز الدين القَسَّام ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين. ومن يقرأ سلسلة خطابات سعد زغلول مع معلمه الشيخ محمد عبده يعرف كيف صار هذا الرجل بوصف الكاتب الكبير محمود عباس العقاد بعبقري التنوير ورائد الاجتهاد والتجديد للفكر الديني باعث الدولة المدنية، وإمام المجددين منذ العام 1865، وكان الأزهرغاية كل متعلم وهدف كل دارس، فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة، وغير ذلك من العلوم الشرعية واللغوية.
واستمر محمد عبده يدرس في الأزهر اثني عشر عامًا، حتى نال شهادة العالمية سنة 1877, وقد تعلم علي مائدة الشيخ درويش خضر الذي كان يلتقي به، فيتعهده بالرعاية الروحية والتربية الوجدانية، فيصب في روحه من صوفيته النقية، ويشحذ عزيمته ونفسه بالإرادة الواعية، ويحركه للاتصال بالناس، وفي مذكرات الإمام اعتراف بفضل علم ومعرفة عالم أزهري جليل كان له أثر كبير في توجيهه إلى العلوم العصرية، هو الشيخ حسن الطويل الذي كانت له معرفة بالرياضيات والفلسفة، وكان له اتصال بالسياسة، وعُرف بالشجاعة في القول بما يعتقد دون رياء أو مواربة, وقد حركت دروس الشيخ حسن الطويل كوامن نفس محمد عبده، ودفعته إلى البحث عن المزيد، وفي رحاب الطهطاوي بمدرسة الألسن، كما اتصل بالحياة العامة, وكانت دروسه في الأزهر في المنطق والفلسفة والتوحيد، وكان يُدرّس في دار العلوم مقدمة ابن خلدون، كما ألّف كتابًا في علم الاجتماع والعمران, واتصل بعدد من الجرائد، فكان يكتب في الأهرام عن الإصلاح الاجتماعي والعلوم العقلية العصرية ثم تولي رئاسة تحرير الوقائع المصرية خلفا لأستاذه الطهطاوي، ومرة أخري تعود مائدة الإمام في رمضان، وكانت هذه المرة في مقر مجلة الوقائع، ويحضرها مساعده المصحح اللغوي الأزهري سعد زغلول وعبدالله نديم وإبراهيم الهلباوي والشيخ محمد خليل والقبطي أديب إسحاق، واتسمت فتاوى الأستاذ الإمام بالميل إلي التسامح واستقلال الرأي والبعد عن التقليد والملاءمة بين روح الاسلام ومطالب الحياة العصرية: كما يقول “تشارلز آدمز” في كتابه “الاسلام والتجديد في مصر”.
كان الإمام محمد عبده يقول “إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل”.. ولكل مسلم أن يفهم عن الله، من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف” كما استخدم نهجه العقلاني في تفسير القرآن كـ “كتاب دين” واستنكر موقف الذين يبحثون عن حقائق العلوم الطبيعية في القرآن.
وكما ذكر في أعماله الكاملة “ليس من وظائف الرسل عمل المدرسين ومعلمي الصناعات وتعليم التاريخ، ولا تفصيل لما يحتويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكن من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، والحيوانات في أنواعها، أما ما ورد من كلام الأنبياء من الإشارة اليها؛ فإنما يقصد منه النظر إلي ما فيه الدلالة علي حكمة مبدعة أو توجيه الفكر إلي القول لإدراك أسراره وبدائعه.
“وليس في القرآن شيء من التاريخ، من حيث هو قصص وأخبار الأمم والبلاد، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوالهم لبيان سنن الله فيهم.. فليس القرآن تاريخا ولا قصصا، وإنما هداية وموعظة, والاسلام دين العقل والرسول يقول “العقل أصل ديني”.
وعلي هذا الطريق يقول الإمام محمد عبده “إن العقل من أَجَلِّ القوي، بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون جميعه هو صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وليس هناك صفحات في هذا الكون محظور علي العقل الانساني أن يطالعها، ويري فيها ما يراه، ذلك أن الحدود التي تحدد نطاق النظر العقلي هي حدود الفطرة لا النصوص المأثورة، فالعقل من أفضل القوى الانسانية بل هو أفضلها علي الإطلاق”.
وإذا كانت هذه آراء الإمام وطريقته في التفكير الحر؛ فمن الطبيعي أن تكون الفتاوى التي تصدر عنه معبرة عن روح العصر والتقدم، فأفتى بجواز التصوير الفوتوغرافي وإقامة التماثيل وجواز أكل ذبائح المسيحيين واليهود، والسماح للمسلم بارتداء الزي الأوروبي والقبعة، وأجاز فائدة البنوك، وجواز التأمين علي الحياة وعلي الممتلكات.
وعندما توفي الإمام كان الخبر صادما للمصريين والعرب، وكل عشاق التنوير والحضارة وتجديد الفكر.
وقد رثاه شاعر النيل حافظ إبراهيم قائلا:
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة ضاقت عيون الكون بالعبـــــرات
ففي الهند محزون وفي اليمن جــــازع وفي مصر باك دائم الحســـــرات
وفي الشام مفجوع وفي الفرس نـــادب وفي تونس ما شئت من زفــرات
بكى عالم الإسلام عالم عصــــــــــــره سراج الدجي هادم الشبــــــــهات.