عندما صرخ الشاعر عيد صالح: ماذا فعلت بنا يا مارك؟
عيد صالح شاعر مصري آخر، يؤكد بطريقته الخاصة من خلال ديوانه الشعري” ماذا فعلت بنا يا مارك” على حجم الاستبدالات المذهلة التي أحدثها فيس بوك في حياتنا، كما يؤكد على خلخلة مسلمة الزمن، ليس من خلال امّحائها، ولكن من خلال استدارتها، حيث يقوم الفضاء الأزرق باجتراح الاستبدالات عبر تدوير القديم في سياقات جديدة، تُخَلْخِلُ الذات وتجعلنا حاضرين وغائبين في نفس الوقت، مُكَرَّرِينَ فيما حولنا وغرباء عنهم وعنا أيضا:
هذا اللعين مارك
نزع الفرادة والخصوصية
حتى الجينات تمازجت
لتنتج مسخا
أراني في كثير من الوجوه والنصوص
حتى ذلك القروي الذي كان يقف بالساعات
ليحظى بنظرة خاطفة
والذي طارد في أحلامه مارلين مونرو
وظلت صورة شيري ماكلين بالأبيض والأسود
مع صورة هيمنجواي وجون كنيدي
في حافظته حتى بليت
كلهم شعراء وفلاسفة وجنرالات
كلهن ملكات جمال الفيس
والجميع عشاق في صالة رقص جماعي
وفي حفل تنكري
من يعزف لمن
ومن يضع يده على كتف من
احترس فقد تطلع إحداهن زوجتك
وتبيت في عنبر الحوادث
حيث لا أسرَّة تكفي المصابين
ولا أكفان للموتى على الطرقات السريعة
والياهو يسبق الأحداث
وجوجل يصنعها على عينيه
وأنت مستلب لا محالة
حتى اسمك تراه في كثيرين
من تاجر مشغولات
لمحاضر في جامعة خليجية
لفتى في العشرينات
وأنت الغريب عن نفسك
تفتش في الصفحات عنك
وهذا الفضاء الذي استلبك
في شاشة بحجم الكف
فقط حرك إصبعك
لترى العالم في قبضتك
كآلة الزمن التي تدور
حيث يكرر التاريخ نفسه
حيث قابيل وهابيل
لا يزالان في غباء
يقتتلان.
عنوان الديوان يحمل دلالات قوية على حضور “مارك زوكربيرغ” ومنصته في حياتنا، والشاعر لا يؤكد في ديوانه على استبدالات المخاطب والملهم والموحي والمحفز، أو على تحطيم مسلمة الزمن فحسب؛ بل يؤكد أيضا على استبدالٍ أكثر عمقا في تقاطعه، وأكثر تأشيرا على وجع وجودي صار يصيب الشاعر.. إنه وجع يشبه وجع الشاعر الجاهلي، وهو يقف على مضارب الراحلين، يتأمل بحزن سرعة زوالها بعد أن عفّتها الرياح وطمست آثارها، يتعلق الأمر بسرعة تلاشي الأشياء على صفحات فيس بوك، تظهر المنشورات والصور بسهولة ويتم التفاعل معها بسهولة، ثم تختفي بنفس السهولة، تتوارى في أعماق الصفحة خلف سيل جديد من المنشورات، إن وجع النوستالجيا التي يشعر بها الشاعر مجسدة في:
القروي الذي كان يقف بالساعات
ليحظى بنظرة خاطفة
والذي طارد في أحلامه مارلين مونرو
وظلت صورة شيري ماكلين بالأبيض والأسود
مع صورة هيمنجواي وجون كنيدي
في حافظته حتى بليت
تقف مقابل سرعة تلاشي ما يعرضه الفضاء الأزرق، وقد اعتدنا بسبب طبيعة وسيلة العرض نفسها “صفحة الفيس” أن نهرب لاهثين إلى الإمام، هروبنا يسهم في قوة زوال ما ننشره، ويسهم في سرعة تلاشيه، لذلك يبدو وجع الشاعر عيد صالح شبيها على حد بعيد بوجع الشاعر القديم، وهو يقف على مضارب القوم، وقد محتها الرياح.
كانت مشكلة الشاعر الجاهلي أن بلاده صحراء، وأنه بدوي ينتقل بجِماله وخيله وأغنامه في جغرافيا واسعة طلبا للمرعى، عدم إمكان الاستقرار جعل بيوته مؤقتة، مجرد خيمة من الشعر ينزعها، حين يرحل لا يبقى في المكان غير أحجار الأثافي وآثار أعمدة الخيام المنزوعة، وبَعَر الجمال والغنم والماعز وبقايا القَرَطِ من علفها، آثار تتناوشها الرياح أسابيع وحتى شهورا، ثم لا يبقى منها إلا ما يمكن بالكاد تبينه، ويمر الشاعر بالمكان، فيصيبه المشهد بقلق وجودي لا مفر منه، إن امّحاء الطلل يذكره بحتمية الفناء، وفي هذه الحالة فإن قصيدته بمقدار ما تتحفز بهذا التحدي الوجودي الهائل إزاء حياة سريعة التلاشي والزوال:
صُمَّ صَدَاهَا وعَفَا رَسْمُهَا واسْتَعْجَمَتْ عَنْ مَنْطِقِ السَّائلِ
كما يقول امرؤ القيس، فإنها تتحول إلى رغبة في استضافة الوجود الزائل في داخلها، حيث ستدوم لحظته في النص قرونا كثيرة، ففي القصيدة وحدها يتحول طلل مَحَتْهُ الريح، ولم يبق منه إلا آثار واهية للخيم وموضع أثافي الطبخ، وبقايا قَرَطٍ وبَعْرٍ إلى هرم فرعوني يقاوم الزمن قرونا طويلة.
لقد جمعت المعلقة الجاهلية شتات ظواهر عصرها، احتفت باحتدامات دخائله، ولاحقت بحيرتها وتساؤلاتها اختلاجات موحياته، ومن خلال جمعها بين العناصر التاريخية، وتأمل أصول الأشياء، ثم وقائع الأيام والتقاليد الفنية، استطاعت -إلى حد كبير- أن تفلسف عصرها، العصر المكون من مادة وهيولي وصورة، شخّصته القصيدة الجاهلية، وجعلته يتعيّن في النص. ومثل ذلك تفعله قصيدة النثر الفيسبوكية اليوم، لنتأمل قول الشاعر عيد صالح:
وحدك في الفيس
تمتشق حسامك الخشبي
في حروبك الطاحنة
في لا شيء الحوائط
وما تسفر عنه أشرطة الأخبار
في فراغ الاكسسوارات والأقنعة
في زحام فضاء مجهول الهوية
في رتل مفازة
وكثبان رملية
حيث تنزلق وتغوص
في متاهتك اليانعة
بالأحجيات والأكاذيب
وحيث تخلع اللغة مجازاتها
وتستل سكاكين صدئة
وأسياخ محمية
وطلقات من مسدسات كاتمة للصوت
لتمارس سادية فاشستية
وفصاما تدميريا
لحمقي ومشوهين
من قرون خلت
يوم طفت الأشجار والسفن والبنايات والخراتيت
في تسونامي خيال مريض
ألا يبدو هذا النص الذي نشر على صفحة الشاعر قبل عشر سنوات “إبريل 2012م” محاولة مبكرة لرصد ظواهر اللحظة الفيسبوكية، ألا يبدو كتابةً منتزعةً من احتدامات دخائلها؟
ألا يبدو شعوره بالوحدة في الفيس “في لا شيء الحوائط” و” في زحام فضاء مجهول الهوية” هو نفسه شعور الشاعر الجاهلي، وهو يقف على طلل يتلاشى في صحراء مترامية الأطراف؟
وهل كان من قبيل المصادفة أن يُشَبِّهَ متاهته في الفضاء الافتراضي، هنا على صفحات الفيس بوك، بـمتاهة أخرى “في رتل مفازة، وكثبان رملية، حيث تنزلق وتغوص، في متاهتك اليانعة”؟
أليس استدعاء أوصاف الصحراء التي كانت متاهة الشاعر الجاهلي، ينم عن شعور بالمماثلة، حتى لو كان الشعور مغمورا في دفائن اللاوعي؟
ألا تتماثل حروبه الطاحنة العبثية على صفحات فيس بوك، مع حروب الشاعر الجاهلي التي كانت طاحنة وعبثية أيضا؟
من جهة أخرى ألا يلوح الشاعر قوي التشخيص لاستبدالات الخطاب الفيسبوكي، وقوة الإزاحة التي ألحقها فضاؤه بالممارسات الكتابية، منذ تحولت إلى لوحة حياة كبرى مليئة:
بالأحجيات والأكاذيب
حيث تخلع اللغة مجازاتها
وتستل سكاكين صدئة
وأسياخا محمية
وطلقات من مسدسات كاتمة للصوت
لتمارس سادية فاشستية
وفصاما تدميريا
لحمقي ومشوهين
من قرون خلت
يوم طفت الأشجار والسفن والبنايات والخراتيت
في تسونامي خيال مريض
إن موقف قصيدة النثر الفيسبوكية من فضائها الحاضن، هو نفسه موقف القصيدة الجاهلية من فضائها الحاضن، فها هي تلاحق بِحِيرَتِها وتساؤلاتها اختلاجات موحياته، وها هي من خلال جمعها بين العناصر التاريخية، وتأمل أصول الأشياء، وقائع الأيام، والتقاليد الفنية، تحاول أن تفلسف عصرها المكون من عناصر افتراضية “مادة وهيولي وصورة تشخص الهيولي” وتؤدي إلى تَعَيُّنِه في النص.
ومع الأخذ في الاعتبار الفارق بين الزمنين، فإن كلتا القصيدتين المعلقة الجاهلية على جدار الكعبة، وقصيدة النثر المنشورة على صفحة صاحبها في موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” تعبران عن صعقة ذهنية.
الفارق أن القصيدة الجاهلية تم تعليقها على حائط الكعبة تكريما لقوة تعبيرها عن عصرها، وجاء تعليقها بعد زمن من شيوعها وانتشارها بين الناس، أما قصيدة النثر الفيسبوكية، فقد انكتبت متعالقة مع الفضاء الأزرق، وفي نفس اللحظة كانت تُعلّق نفسها على حائط كاتبها في الفيسبوك، وقد جاء تعالقها وتعليقها تعبيرا عن شعورها بقوة تعبير حائط الفيسبوك عن العصر.