في أعقاب عام 1991، قامت أوكرانيا بعد موجة من الانفصال والكراهية، التي اجتاحت المناطق الجنوبية الغربية من روسيا الكبرى، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي.. وفي هذه الفترة كانت روسيا ذاتها كيانا مواليا للغرب، وذلك بحسب كتاب “جغرافية السياسة في روسيا“.
يقول ألكسندر دوجين مؤلف الكتاب “في تسعينات القرن العشرين تحديدا، كانت النخبة السياسية الحاكمة في روسيا متضامنة تماما جيوسياسيا وأيدلوجيا مع النخبة الأوكرانية، وتتشاطر معها قيم العولمة، ومستعدة للاندماج في النظام العالمي أحادي القطب تحت سيطرة الولايات المتحدة، حتى أن روسيا الاتحادية بدا أنها معادية لنفسها، وقد تجلى ذلك في جغرافيتها السياسية وتركيبة النخب وتوجهات السياسة الخارجية. وكان مصير روسيا “الصغرى” التي نشأت في سياق انهيار روسيا الكبرى؛ مرسوما بشكل منطقي مصيره المزيد من الانقسام، وقيام دول جديدة مستقلة حديثا في الأراضى الروسية السابقة، بأيدلوجية كارهة لروسيا التي أعلنت كبلد أوروبي متخلف، وصورت على أنها منطقة نفوذ طرفية للولايات المتحدة الأمريكية، تمر بحالة انتقال من الشيخوخة إلى الموت،بالقرب منها كانت هناك دول أخرى تشكلت حديثا؛ لكن النقطة الإيجابية في صالحها حال المقارنة مع روسيا، كانت تكمن في صعود القومية التي عوضت الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب والتخلف العام“.
ويضيف “في تسعينات القرن العشرين كانت روسيا واقعة تحت سيطرة الطابور الخامس من الليبراليين التغريبيين، وفى أوكرانيا كانت تجري عمليات مماثلة من التحول التدريجي إلى دولة أطراف متخلفة في محيط الغرب، وكانت كلا البلدين عبارة عن وحدات تدار من الخارج وكان الاستراتيجيون الأمريكيون يتابعون عن كثب فقط؛لكى لا يتحد الأوكرانيون والروس للعمل معا من أجل حل مشاكلهم”.
في أواخر التسعينات كان مصير روسيا على المحك حيث وقعت الأزمة المالية، ثم غزا الانفصاليون الشيشان داغستان، ووقعتتفجيرات الشقق في موسكو، ولم يكن يلتسين قادرا على التعامل مع كل هذه التحديدات، بينما تقف البلاد على حافة الهاوية، ولم يتبق الكثير حتى تنتهى روسيا، ولكن وصول فلاديمير بوتين للسلطة أحدث تغييرا جذريا.. لقد انتقلنا إلى المرحلة الثانية من التاريخ الحديث لروسيا، والتي يمكن تعريفها بأنها مرحلة “روسيا الشركة“ وذلك بحسب كتاب “جغرافية السياسة في روسيا”.
استعاد بوتين في المرحلة الأولي المركزية السياسية في روسيا،وانتصر في الحملة الشيشانية الثانية، وعزز الوحدة الإقليمية لروسيا، وحافظ على سلامة أراضيها.. يقول دوجين: “لقد غير فجأة وبحدة مسار التاريخ السياسي، وفى الواقع نفذ بوتين إصلاحا جذريا في البلاد وحولها من الانهيار والاضمحلال الممنهج؛ حيث كانت تسير تحت حكم يلتسين، إلى وحدة سياسية ثابتة وبدلا من الادارة الخارجية باتت روسيا تحكم ويسيطر عليها من قبل الرئيس“.
ويضيف.. “أوقف بوتين انحدار البلاد من حافة المنزلق، واستأنفت روسيا وجودها من جديد وحوّل البلاد من مفعول به إلى فاعل، وكان هذا الفاعل كيانا وطنيا مستقلا يلعب في المجال الليبرالي للعولمة؛مع قبوله لكل قواعده. لقد دخلت التاريخ “روسيا الشركة” التي تناضل من أجل مصالحها، وكان الهدف إدخال روسيا كشركة شابة ناجحة في نادي الدول الغربية المتقدمة؛ حيث كانت الريادة سابقا مقصورة على لاعبين آخرين.. ومن جانبه حاول بوتين إثبات أن روسيا بلد أوروبي تنافسي، وعضو كامل العضوية في النادي الغربي.
في موازاة التغير الكامل في سياسة روسيا الخارجية؛ حدث تغير في العلاقات مع الدول السوفيتية السابقة، وخاصة أوكرانيا.. فبوتين لم يكن راضيا عن نزعة كراهية روسيا لكنه التزم بالاعتراف بحدود وسيادة تلك الدول؛ ونظرا لأن الراعي الرسمي وهو الولايات المتحدة تراجع إلى الخلفية؛ بدأ بوتين الاحتكاك بالدول التي هاجمت روسيا بدرجة أكثر عدوانية فقد تشكل في تلك الفترة إطار تكتل “جوام” الذى شمل معظم بلدان رابطة الدول المستقلة المعادية لروسيا وهى جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان ومولدافيا، وبدأ بوتين ينظر إليهم كمنافسين محليين يعتمدون في حوارهم مع روسيا على الغرب، وفي الوقت نفسه كانت واشنطن تشعل أكثر فأكثر فتيل الكراهية لروسيا، وهو ما بدا واضحا في عام 2004، عندما وصلت إلى السلطة في أوكرانيا بضغوط الولايات المتحدة والغرب.. قوى معادية لروسيا على إثر ما عُرف بالثورة البرتقالية. وشهد تاريخ “روسيا الشركة” خلال الفترة من 2000 وحتى 2014 الكثير من الإخفاقات والنجاحات وكانت الفترة الأصعب هى فترة رئاسة “ميدفيديف” عندما عادت الميول الليبرالية تقريبا إلى الوضع الذى كان قائما في التسعينات،وذلك بحسب كتاب “جغرافية السياسة في روسيا“.
كان الغرب يعي جيدا دائما أنه في حالة روسيا تحديدا؛ يتعامل مع حضارة عدوه الوجودي الرئيسي العنيد لقرون، وذلك وفق إلكسندر دوجين الذى يكمل “بات واضحا أن العلاقات مع الغرب مستحيلة؛فمواصلة اعتبار روسيا شركة وقبول شروط المجال الليبرالي؛ أثبتت تعارضها مع وجود روسيا نفسها. وفي مارس 2014، وفي اللحظة التي أعلنت فيها روسيا ضم القرم لم تعد “روسيا الشركة” موجودة سواء من حيث هيكل حدودها أو مضمونها الأيدلوجي.
يقول دوجين “حالة روسيا في ظل واقعة القرم؛ هى بداية لتجميع الأراضي الروسية واستعادة روسيا العظمى، باأشكال وطرق أيدلوجية مختلفة فى مواجهة الغرب، فروسيا نفسها حضارة وهوية على قدم المساواة مع الغرب، فلو ظلت روسيا شركة فقط في عالم الشركات العالمية، لما سعى أحد لتدميرها، ومن الآن فصاعدا بات اللعب على القواعد الغربية مستحيلا بالنسبة للمصالح الروسية، والآن روسيا مضطرة لوضع القواعد وتقديمها للآخرين، ومن الآن فصاعد روسيا ليست إحدى القواعد التي تلعب وفقا لقواعد الرأسمالية الغربية؛ ولذا فروسيا تنظر بالنسبة للجنوب الشرقى لأوكرانيا بوصفه مجال لحضارتها، وإن كان يوجد على الأقل داخل حدود دولة صديقة أو محايدة؛ لكنه لايحق لنا تركه تحت سيطرة النازيين الجدد الكارهين لروسيا فالحضارة عليها أن تدخل إلى الجنوب الشرقي لأوكرانيا تشكيلاتها ووحداتها الحضارية.