ثقافة

حذيفة بن اليمان.. صاحب السر.. مهاجر من الأنصار!

هذا حذيفة صاحب سر رسول الله.. رجل عَدِمَ النظير، إذا بلغت الشدة ذروتها برز، وإذا غفل الناس انتبه، وإذا مالوا وقف لهم بالمرصاد حتى يعتدلوا، آه يا صاحب السر من يجاريك وكنت إذا حمي الوطيس أحد آساده، وإذا نامت العيون في الليل أنت من رهبانه، وإذا ذكر أهل العلم والتقى، فمن يغفل عن ذكرك يا حذيفة.. سحائب الرضوان تظلك يا ابن حسيل، فما خطوت خطوة إلا بنية، ولا نزلت بأرض إلا ملتمسا البر بكل من فيها، وما كانت الدنيا في حسابك يوما.. فكيف لا يستوحش الناس زمانا خلت أيامه من حذيفة وأمثاله؟!

لا تخبرنا المصادر على وجه التحديد متى وأين ولد حذيفة، والمُرجّح أنه ولد بالمدينة إذ انتقل أبوه إليها بعد ان أصاب دما في قومه، ثم حالف بني عبد الأشهل وهم من الأوس، ولقب والده باليمان لأنه حالفهم، وهم أصلا من اليمن، لذلك يعتبر حذيفة مهاجرا كما يعتبر من الأنصار وعندما خيره النبي بينهما اختار حذيفة النُّصرة على الهجرة.

شهد حذيفة مع النبي المشاهد كلها عدا بدرا؛ ولغيابه عنها قصة إذ كان وأبوه حسيل بن جابر عائدين إلى المدينة؛ فأسرتهما قريش ثم أطلقتهما بعد أن أُخذ منهما العهد بعدم القتال، فلما عادا أخبرا الرسول فأقرهما على الوفاء بالعهد قائلا: “بل نفي لهم ونستعين الله عليهم”.

وفي أحد يظهر معدنه النادر كمقاتل ما رأت الساحات له شبيها، ويقتل والده خطأ على يد جماعة من المسلمين، وكان حذيفة محبا له أشد الحب، ولكنه يعفو عمن قتلوا أباه بل يدعو لهم: “يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”.

ويحزن حذيفة أشد الحزن، وعندما يأمره الرسول بأخذ الدية، يرد وقد اغرورقت عيناه: “يا رسول الله, أبي كان يطلب الشهادة, وقد نالها، اللهم اشهد أني تصدقت بديته على المسلمين”.

ولا يذكر حذيفة إلا ويذكر موقفه يوم الخندق، يوم أن جمعت قريش القبائل وحاصرت المدينة بجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، بينما غدر بنو قريظة، واستقوى المنافقون وتتابعت أعذارهم لينفضوا من حول الرسول، وصار وجود الإسلام مهددا بالإفناء والدولة الوليدة بالنهاية الفاجعة، والرسول وأصحابه في أشد حالات الوهن والإعياء والجوع بعد أن انتهوا من حفر الخندق، وينتظرون أمر الله” هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً” ويطلب الرسول متطوعا يأتيه بخبر القوم فما يتقدم أحد، يقول حذيفة: “عند ذلك قام النبي عليه الصلاة والسلام وجعل يمر بنا واحدا واحدا، حتى أتى إليّ, وما علي شيء يقيني من البرد إلا مرط لامرأتي، لا يجاوز ركبتي، فاقترب مني وأنا جاثٍ على الأرض, وقال: من هذا؟ قلت: حذيفة، فتقاصرت, وتقاصرت إلى الأرض كراهية أن أقوم من شدة الجوع والبرد، قلت: نعم يا رسول الله، فقال: إنه كائن في القوم خبرٌ أريد حقيقته فتسللْ إلى عسكرهم، وائتني بخبرهم، فخرجت وأنا من أشد الناس جزعا، وأكثرهم فزعا، وأكثرهم بردا، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته, فو الله ما تمت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام, حتى انتزع الله من جوفي كل ما أودعه فيه من خوفٍ، وأزال عن جسدي كل ما أصابه من برد, فلما وليت ناداني عليه الصلاة والسلام وقال: يا حذيفة, لا تُحدثَن بالقوم شيئا, فقلت: نعم، ومضيت أتسلل في جنح الظلام حتى دخلت في جند المشركين، وصرت كأني واحد منهم، وما هو إلا قليل حتى قام أبو سفيان فيهم خطيبا، وقال: يا معشر قريش, إني قائل لكم قولا: أخشى أن يبلغ محمدا فلينظر كل رجل منكم إلى جليسه, قال: فما كان مني إلا أخذت بيد الرجل الذي كان بجانبي, وقلت له: من أنت؟ قال: أنا فلان، وهنا قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار قرار، لقد هلكت رواحلنا، وتخلت عنا بنو قريظة، ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله ففك عقاله، وجلس عليه، ثم ضربه فوثب قائما، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرني ألا أحدث فيهم شيئا حتى آتيه لقتلته بسهمٍ عند ذلك رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدته قائما يصلي، في مرط لبعض نسائه، فلما رآني، أدناني إلى رجليه, وطرح علي طرف المرط، فأخبرته الخبر، فسر به سرورا شديدا، وحمد الله وأثنى عليه”.

يبرز حذيفة في موقف آخر لا يقل عظمة عن موقف الخندق، ألا وهو موقف الدفاع عن رسول الله في رحلة العودة من تبوك فعندما ارتفع النداء بين جيش المسلمين “أن خذوا بطن الوادي فهو أوسع عليكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ ثنية العقبة” قرر اثنا عشر رجلا من المنافقين اغتيال الرسول مستغلين هذا الظرف، إذ لم يكن معه سوى حذيفة وعمار، وشن المنافقون هجومهم وكانوا جميعا على الإبل، فأمر الرسول حذيفة بالتصدي لهم، فاندفع كالسهم تجاههم يدفعهم ويضرب وجوه رواحلهم حتى فروا، وعادوا فالتحقوا بالجيش، وكان النبي قد عرفهم وأخبر بأسمائهم حذيفة، الذي استأذن في إخراجهم وضرب أعناقهم؛ لكن رسول الله لم يأذن وقال:” لا…أكره أن تحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم”.

وفي العام الحادي والعشرين للهجرة يحيق بالمسلمين أمر جلل، إذ جاءت الأنباء إلى ابن الخطاب بأن الفرس قد بدءوا التحرك بجيش قوامه مئة وخمسون ألف مقاتل، يبغون سحق المسلمين واستئصال شأفتهم والثأر لقتلاهم يوم الهزيمة المدوية في القادسية، فيأمر عمر باجتماع القوات من الكوفة والبصرة على أن يقود الجيش النعمان بن مقرن، ومن بعده حذيفة إن كتب الله له الشهادة، ويلتقي الجيشان والفرس خمسة أضعاف المسلمين، ويحتدم القتال ويستمر لأيام، وينال النعمان الشهادة ويحمل الراية من بعده حذيفة، فيفتح الله على يديه، وينتصر المسلمون على الفرس في نهاوند نصرا ساحقا، ينتهي به حكم الدولة الساسانية إلى الأبد، بعد أن قاد حذيفة الجيش لفتح همذان والري والدينور، ثم يشهد فتح الجزيرة وينزل نصيبين وبها يتزوج.

ثم يرسله عمر ليكون واليا على المدائن، وينتظره القوم على أبواب المدينة، فإذا به وقد ركب حماره وأخذ يأكل من رغيف معه قد وضع فيه بعض الملح، ثم ينزل ويدفع إليهم بكتاب عمر، وكان فيه” اسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم” فقالوا له: وماذا تسألنا؟ قال: طعام لي وعلف لحماري. ليس أكثر من ذلك يطلب حذيفة، فالدنيا ليست في حسبانه، إنما يتطلع إلى جنة عرضها كعرض السموات والأرض، وإلى يوم يلقى فيه الأحبة محمد وصحبه، ثم يقول لهم: “إياكم ومواقف الفتن قالوا: وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله ؟ فيقول:” أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير أو الوالي، فيصدقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه”. وهنا يوضح حذيفة منهجه في الحكم على أوضح ما يكون، فهو رجل عاش متقيا للفتن، حاذرا من الشر مخافة أن يدركه، وكانت سيرته فيهم على خير ما يكون حتى وافته المنية وهو بينهم، وكان ذلك في العام السادس والثلاثين للهجرة بعيد مقتل عثمان بأربعين يوما، وكان قد جمع الناس وأوصاهم بنصرة الإمام علي والثبات معه فيما سينوب من نوائب “فوالله إنّه لعلى الحقّ آخرا وأولا” وكان ولداه صفوان وسعيد ممن ثبتوا مع الإمام في صفين حتى نالا الشهادة، أما ولده الأصغر سعدا، فقد عاش حتى التحق بالتوابين الذي ثاروا لثأر الحسين.

وكانت آخر كلماته رضي الله عنه وأرضاه: مرحباً بالموت، حبيبٌ جاء على شوق، لا أفلح من ندم.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock