في الثامن عشر من مايو عام 1965، شهدت ساحة “المرجة” بقلب العاصمة السورية دمشق تنفيذ حكم الإعدام في “إيلي كوهين” جاسوس الموساد الذي نَشِطَ لأكثر من ثلاث سنوات داخل القطر العربي السوري.. نُفّذَ الإعدام في حضور جمهور قليل، أُبلغ عبر الإذاعة بالتنفيذ قبل ساعات.. ليرحل “كوهين” أو “كامل أمين ثابت” كما سُمّيَّ في تلك العملية، ومعه الكثير من الأسرار التي مازالت تشكل علامات استفهام كبيرة إلى يومنا هذا.
في فترة وجوده في الإسكندرية التي انتقلت إليها أسرته قادمة من حلب عام 1924، انضم “كوهين” إلى منظمة الشباب اليهودي الصهيوني عام 1944، مبديا حماسا ملحوظا بخصوص نشاط العصابات الصهيونية في فلسطين. بعد إعلان قيام دويلة الكيان؛ اندفع “إيلي” رفقة شباب المنظمة للدعاية الممنهجة لهجرة اليهود المصريين إلى أرض الميعاد حسب المزاعم الصهيونية، فهاجر أبواه وثلاثة من أشقائه إلى فلسطين عام 1948، بينما تخلّف هو استجابة لأوامر قائده المباشر “إبراهام دار” وهو أحد كبار الجواسيس الإسرائيليين الذي وصل إلى مصر ليباشر دوره في التجسس ومساعدة اليهود على الهجرة وتجنيد العملاء، تحت اسم “جون دارلينج”.
شكّل “إبراهام” شبكةً للمخابرات الإسرائيلية بمصر نفذت سلسلة من التفجيرات؛ استهدفت بعض المنشآت الأمريكية في القاهرة والإسكندرية بهدف إفساد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 1954، ألقيَّ القبض على “كوهين” وعددٍ من أفراد الشبكة في القضية التي عرفت بفضيحة لافون.
بانتهاء عمليات التحقيق، كان “إيلي كوهين” قد تمكّن من إقناع المحققين ببراءته ليفرج عنه، ويخرج من مصر عام 1955، متوجها إلى الارض المحتلة؛ حيث التحق هناك بالوحدة رقم 131 بجهاز الموساد؛ ليقضي فترة تدريب مكثف ليعود بعدها إلى مصر.. تحت سمع وبصر رجال جهاز المخابرات العامة المصرية؛ ليعتقل مجددا مع بدء العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956، ليخرج من مصر للمرة الأخيرة.
في أوائل فبراير من العام1961، كانت الأوساط العربية في العاصمة الأرجنتينية “بيونس أيرس” تستقبل رجلا جاوز منتصف الثلاثينات بقليل – بترحيب كبير.. هذا الشخص الذي قدّم نفسه كرجل أعمال سوري غادرت أسرته حلب أوائل القرن العشرين إلى بيروت ومنها إلى الإسكندرية، ومنها إلى الأرجنتين حيث مات الأب ولحقت به الأم بعد أشهر، لم يكن في حقيقته سوى “إيلي كوهين” الجاسوس المكلّف بمهمة فوق العادة في دمشق.
خلال فترة تواجده القصيرة في الأرجنتين استطاع ” كامل أمين ثابت” أو “إيلي كوهين” أن يقيم شبكة علاقات قوية مع العديد من الشخصيات المرموقة، حتى وصل إلى تكوين علاقة ودية مع العقيد “أمين الحافظ” الملحق العسكري للسفارة السورية هناك، الذي سيصبح بعد ذلك الفريق” أمين الحافظ” الرئيس السوري في الفترة من يوليو1963 إلى فبراير1966، لذلك سيتم التشكيك في كون هذه العلاقة قد حدثت من الأساس.
لنحو عام عمل “إيلي” في شركة للنقل، وتعلم الإسبانية واكتسب وضعا متميزا بين الجاليات العربية في العاصمة الأرجنتينية، وعُرف بوصفه قوميا سوريا متحمسا.. وخلال المآدب الفاخرة التي اعتاد كوهين إقامتها, كان الدبلوماسيون السوريون علي رأس الضيوف, وكان “إيلي” يبدى حنينا جارفا للوطن، ورغبة ملحّة في زيارته، وتقديم كل ما يمكن عمله في تلك الفترة التي كانت تموج بالاضطرابات قبيل إعلان الانفصال عن مصر في سبتمبر 1961، إثر انقلاب عسكري.
في يناير1962، وعقب زيارته للأرض المحتلة، تلتها جولة سريعة في عدد من العواصم العربية هدفها التضليل– كانت أقدام “كامل أمين ثابت” تطأ أرض مطار دمشق وسط ترحيب شديد من بعض من تعرف عليهم في “بيونس أيرس” أو اقارب ومعارف لهم، وفي غمرة تلك المشاعر الجياشة يعلن رجل الأعمال الثري أنه سيستقر نهائيا في أرض الوطن بعد تصفيته لكافة أعماله في الأرجنتين.. تردد بعد ذلك أن المهمة الأساسية لإيلي كوهين في سورية كانت معرفة مكان “ألويس برونر” أحد مساعدي القائد النازي “أدولف إيخمان” ولكن “كوهين” لم يفلح في تلك المهمة.
في غضون شهرين فقط استطاع “كوهين” أن يرتب أموره على أفضل ما يكون، وبدأت رسائله التي تحوي معلومات في غاية الأهمية تتوالى على الجهاز التابع له، والذي كان يعرف اختصارا بـ”أمان”.. كما استطاع “إيلي” أن يقيم شبكة علاقات واسعة تضم ضباطا في الجيش، ومسئولين تنفيذيين، وبعض أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة.. وكان المسكن الذي اختاره في حي “أبو رمانه” الراقي مواجها لمبنى هيئة الأركان السورية، وقريبا من قصر الضيافة ومجاورا للسفارة الهندية.. اعتاد “كوهين” في تلك الفترة زيارة أصدقائه في مقار عملهم ومنها ما هو داخل وزارة الدفاع نفسها، ولم يكن من المستغرب أن يتبادل أصدقاؤه من الضباط الحديث أمامه عن الخطط المعدة في حال نشوب الحرب مع الصهاينة، كما كانت الأحاديث تتطرق لأنواع الأسلحة ومداها والمفاضلة بينها، وأدق التفاصيل عن السلاح السوفيتي المتدفق عبر الموانئ السورية.
وبالطبع كانت هذه المعلومات تصل أولا بأول إلي إسرائيل, ومعها قوائم بأسماء وتحركات الضباط السوريين بين مختلف المواقع والوحدات.
وهناك قصة رويت من أكثر من شاهد عيان مع اختلاف طفيف في التفاصيل تشكل أهمية كبرى في حسم الخلاف الدائر حول المكانة التي وصل إليها هذا الجاسوس داخل النظام السوري آنذاك- ألا وهي قصة زيارته للتحصينات الدفاعية في مرتفعات الجولان في سبتمبر 1962 أي بعد مرور نحو ثمانية أشهر فقط من وصوله دمشق، وتزعم بعض المصادر أن “كوهين” استطاع تصوير جميع التحصينات بواسطة آلة التصوير الدقيقة المثبتة في ساعة يده.. تلك المواقع التي تساقطت في حرب حزيران “كالفراشات الواهنة أمام اندفاع جنود وآليات العدو الصهيوني دون دفع أو مدافعة”.
وفي عام 1964, تصبح “أمان” إحدى الوحدات التابعة للموساد, وفي نفس العام ينجح “كوهين” في إمداد “تل أبيب” بتفصيلات وافية عن الخطط الدفاعية السورية في منطقة القنيطرة, ثم يرسل تقريرا آخر عن وصول صفقة دبابات روسية من طراز تي ـ54, وأماكن توزيعها, ثم تقريرا تفصيليا عن خطة اجتياح لشمال فلسطين المحتلة وضعتها القيادة العسكرية السوفيتية، حال نشوب الحرب.
كانت النجاحات التي يحققها “كوهين” تتوالي وتتواكب مع تنامي نفوذه داخل دوائر السلطة، وقد ترددت أقاويل كثيرة عن أنه كان على مقربة من تولي منصب رفيع في حزب البعث، وقيل أنه كان مرشحا لتشكيل الوزارة، وبالطبع فإن هذه الأقاويل قد تم نفيها بشدة من قبل المسئولين السوريين، الذين زعموا أن “كامل أمين ثابت” كان محل شكوكهم طوال الوقت!
من الروايات الشائعة عن كيفية كشف الجاسوس “كوهين” تلك الرواية التي تعزو هذا الشرف لأحد رجال المخابرات العامة المصرية داخل الكيان، وهو المعروف إعلاميا باسم” رأفت الهجان” الذي يقال أنه رأى صورة عائلية ضمت “كوهين” في منزل صديقة له، فلما سألها عنه أجابته أنه زوج شقيقتها، لاحظ “رأفت” قرب الشبه بين الشخص الذي يظهر في الصورة، وصورة شخص ظهر بصحبة القائد المصري الفريق أول “علي عامر” قائد القوات العربية بسورية، والعقيد “صلاح جديد” وأشير إليه بالعضو القيادي بحزب البعث العربي الاشتراكي “كامل أمين ثابت”.
وقيل أن المخابرات السورية لم تنتبه لتلك المعلومات عندما وصلتها من المخابرات المصرية، إذ ظن السوريون أنها مكيدة؛ نظرا لتوتر العلاقات المصرية السورية في هذا الوقت، والرواية السورية عن كشف الجاسوس تحيل إلى شكوى من تشويش على الإرسال قُدمت من السفارة الهندية المجاورة لسكن “كوهين” ومع تتبع المصدر تم الوصول إلى الجاسوس والقبض عليه، ومنعه من الانتحار بالسم.
الغريب أن الذي ترأس المحكمة العسكرية التي حكمت بالإعدام على “كوهين” هو أحد أصدقائه اللواء “صلاح الضللي” وكانت هيئة المحكمة قد ضمت صديقا آخر لكوهين هو “سليم حاطوم” قائد لواء مظلات.. بينما أدين معه “معز زهر الدين” ابن شقيقة رئيس الأركان آنذاك.
كانت إجراءات المحاكمة السريعة محل تشكك الكثيرين، وكان الحكم بالإعدام وسرعة تنفيذه مؤكدا على أن السلطات أرادت إغلاق الموضوع بأسرع ما يكون نظرا لحساسيته، ولكونه يطال كثير من المتنفذين داخل الدوائر السياسية والحزبية والعسكرية بالدولة السورية، وكانت شهادات من داخل سجن “المزّة” العسكري قد أكدت أن “كوهين وصف دائما داخل السجن بالخائن، ولم يوصف بالجاسوس!
في نهاية صيف 2019، عرضت شبكة نتفيلكس مسلسلا بعنوان “الجاسوس” يروي وقائع قصة “إيلي كوهين” من وجهة نظر صهيونية، اعتبرته بطلا قوميا، سعى الكيان منذ إعدامه لاستعادة رفاته دون جدوى؛ حيث أعلن السوريون أن جثمانه دفن في مكان مجهول يصعب الاستدلال عليه.