لرحاب الله ذهب مظفر النواب شاعر الأحرار العرب طوال نصف قرن من الزمان, الشاعر المسموع بحق رغم حصار شرائطه المسجلة، التي كانت تُهرّب من العراق، هي رحلة الهروب هذه المرة للسماء، حيث عدالة الواحد الأحد التي ظل النواب ينشدها ويناشدها، ولم تتحقق له حيًا.
في فبراير عام 1963، اضطر الشاعر، إلى مغادرة العراق بسبب الظروف السياسية، وهرب إلى إيران عن طريق البصرة، قبل أن تسلّمه السلطات الإيرانية إلى الأمن السياسي العراقي حينها، وحكم على النواب حينها بالإعدام، لكن الحكم خُففَ إلى السجن مدى الحياة، حيث انتهى به المطاف في سجن الحِلّة في وسط العراق، حيث فرّ من السجن في رحلة هروب تشبه الفيلم الأمريكي الشهير “الهروب الكبير” لكنه اعتقل ثانية بعد ذلك بسنوات.
وصف بيان وزارة الثقافة النواب بأنه “من أهم الأصوات الشعرية العراقية”، وأضاف البيان أنه “تميّز بغزارة إنتاجه مع إجادة واضحة ومقدرة فذة على تطويع اللغة، وامتلاكه لمخزون جمالي لا ينضب، مما مكنه من كتابة الشعر بأشكاله كافة”.
واعتبرت الوزارة أن رحيل النواب “يُمثل خسارة كبيرة للأدب العراقي، لما كان يمثله كنموذج للشاعر الملتزم، كما أن قصائده رفدت المشهد الشعري العراقي بنتاجٍ زاخر، تميّز بالفرادة والعذوبة”. وأضاف البيان أن “منجزه سيظل ماثلا في ذاكرة الأجيال” وأن الوزارة تعتزم “إعادة طباعة كتبه ودواوينه؛ لتشكل منهلا للقراء والمهتمين”.
كما نعى الرئيس العراقي برهم صالح، في تغريدة عبر حسابه على تويتر، مظفرالنواب قائلا: “يبقى حيا في ذاكرة الشعب مَن زرع مواقفه السياسية والوجدانية بشكل صادق، ولهذا فإن الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب لا يمضي إلى العدم. فهو حيّ في ذهن كل مَن ترنم بقصائده الخالدات”.
مصر في شعر النواب
كم تمنّي النوّاب العيش بمصر طويلا، وكتب فيها قصيدة “لمصر مواقيتها” في لحظة حب وانفعال نادر، عندما قال أحد الحضور “الشعب المصري ميت لا يثور ولا يقاوم” فردّ النوّاب صارخا في قصيدة “عروس السفائن”:
أفرعون يا من تُخلّد أهرامكَ الموتى
أسرع هنالك من يَبتني هرمًا للمخازي
تقزّزَ وجهُ الإله
..وألهبَ ظهر الجيادِ سياطًا وقرّحها
صحتُ: قفْ أيها السادنُ الأبديّ
فمن يملكون السدانة قد سرقوا شعب مصر
زَوّرُوا شعبَ مصرَ
وقّعوا باسم مصر ومصر بُراءُ
شربوا نخبها وهي جائعة
ليس في قدميها حذاء
ولكن متى كان فرعون يصغي!
دعوت أبا المسك
لكن متى كان كافور يصغي!
استجرت المماليك
لكنهم أرسلوا مصر فوق الجِمال
لوالي الجزيرة كسوة
ووالي الجزيرة بين سراويله
الحل.. والربط.. والزيت.. والموت.. والحرب
والسلم.. والعنعناتُ
وأكثر ما يُفرخ الإمعاتُ
ولكن لمصر مواعيدها..
للصعيد مواعيدهُ
للرصاص مواعيدهُ
والنجوم هنا لا تُعَدُّ
وليس أمام البراكين في لحظة الروعِ سَدُّ
وهذي الشوارع إن هدرت قدرٌ مستبدُ
وهذي الفوانيس تصغي لحلوان في الليل
حيث السلاح الخفي يُعَدُّ
أعدوا لهم ولعاهرهم، إنَّ عاهرَ نجدٍ يُعِدّ
لقد حاولوا أن يهدّوا على “ناصرٍ” قبره
فهو معترض دربهم
والقبور لهن لدى الحرب حَدُّ
ولكن لدى الله جند
ومصرُ الرحيمة
لا ترحم السفهاء
أنا لست بالناصري ولكنهم
ألقوا القبض ميْتًا عليه
وعري من كفن نسجته قرى مصر من دمعتيها
إذن.. سقط الآن عن بعض من دفنوه الطلاء
أقول لناصر أخطأت فينا اجتهادًا
ولكننا أمناء
وأن الذي في الكنانة مما رحمتَ فأطلقتَ أمسَ
يكافئكَ الطلقاء
لئن كان كافور أمس خصيا
فكافورها اليوم ينجب فيه الخصاء
تفتق فيه الغباءُ ذكاءً
ومن مُشْكِلٍ يتذاكى.. بدون حياءٍ غباءُ
وما عجبٌ ترسل الريح في أزمةٍ
وتلفُّ بموضعها الخنفساء
ولكن تموت على ظهرها وتكابر
مسألةٌ تقتضي فُهماءُ
ومهما السجون تضم “إمامًا”
يظل على شفة الكادحين الغناء
ومصر التي في السجون مع الرفض
أما التي في البيانات مصر البغاء
وحاشا فإن من النيل ما يغسل الدهرَ
مهما طغى الحاكمون الجُفاءُ
لمن في الظلام التوابيت تمشي
لمن في الظلام الدماء
لمن في الظلام التوابيت تمشي
وفيم الحراسات حول المقابر
قال الذي يتلفت
: إن العزيز يمر على شهداء المحلة بالطائرة
فقلت: هو القسط يُدْفَعُ
أقفل فمك فالمباحث من حولنا كالبعوض
وفيم العجالة في الدفن؟
اسكت!
مخافة أن يزحف الدم في القاهرة
صرخت: سيزحف.. علمني زمن بالعراق
بأن الدماء هي الآخرة…
وحين الصعيد يطوق قصر المماليك
لست أبالغ يجتمع الله في الناصرة
تقول البيانات قد قتلوا عاملاً واحدًا
تكذب العاهرة
فهذا دم يجمع العرب الفقراء من
الأطلسي إلى صفقة في الخليج
وقد كفرت نخلة حين بيعت
وإني من النخلة الكافرة
أرى الأرض تنقل أيضا مع النفط
في الباخرة
خنازير هذا الخليج يبيعوننا
والذين هنا يمسحون قذارتهم بالقروض
لقد تمت الدائرة
لمن في الظلام الدماء؟.. سؤال يلح
وتزهر من حوله أعين السائرين على جثث
زيتتها المكائن والدم والكبرياء
ستبقى المكائن هذي مُزَيّتَةً بالدماء
وينتج عنها قماشٌ دماءُ
إلى أن تقول الكنانة أحكامها
ويُعَلّق فيها السماسرةُ الزعماءُ.
وقد خَصَّ الشاعر النوّاب القضية الفلسطينية؛ فكانت في صُلب نصوصه الشعرية، التي انتقدت الواقع العربي، وما زالت أشعاره التي خطها منذ عقود صالحة في ظل ما تشهده الساحات العربية من حروب دموية ومؤامرات.
يقول في قصيدته “القدس عروس عروبتكم”
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها ؟؟
ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفا
وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض
فما أشرفكم
أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة؟
ويواصل النواب جلده للذات العربية المتخاذلة ففي قصيدة “من بيروت” يقول:
آه يعقوب.. راقـب بَنِيْكَ
فما افترس الذئب يوسف
لكنه الجبُّ
آه من الجبّ في الأمة العربية.
كانت رحلة مغادرة النواب بغداد إلى بيروت ثم دمشق، وتنقّل بين العواصم العربية والأوروبية، قبل أن يصاب بالمرض ويفارق الحياة.
وقد استعاد عراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع من قصائد النواب التي كان لها تأثير كبير في الشعر العربي والشعر الشعبي العراقي، معربين عن حزنهم لفقده.
وللنواب العديد من القصائد، أبرزها قمم قمم، أصرخ، البراءة، سوف نبكي غدا، وأيام العشق وفي رسالة ماجستير مهمة عن مظفر النواب أعدتها الدكتورة “نهاية عبد اللطيف حمدان رضوان” بجامعة النجاح الوطنية قالت فيها “هو مظفر عبد المجيد أحمد حسن ب أحمد بن إقبال بن معتمد الّنواب، والنواب تسمية جاءت من النيابة، أي النائب عن الحاكم حيث كانت العائلة تحكم إحدى الولايات في الهند، وقد ولد في بغداد عام 1934، ولكن وضع تاريخ ميلاده في شهادة الميلاد 1932، حتى يتمكن من دخول المدرسة في سن مبكرة، ما أدى إلى شعوره بالخجل من رفاقه لأنه كان أصغرهم سنًا، حتى أنه فهم مواد الصف الأول عندما أصبح في الصف الثاني، وكان يرتبك ويخجل عندما, يطلب إليه المعلم أن يقف أمام الطلاب، أو يخرج إلى اللوح أمامهم.
عاش النواب في بيت يسوده الوئام والسعادة والحياة الهانئة، فقد كانت والدته، وهي وجيهة بعلي من مواليد بغداد، متعلمة درست إلى الثانوية في مدرسة الراهبات في بغداد، ومطلعة على اللغة الفرنسية، وتجيد العزف على البيانو, أما والده عبد المجيد وهو من مواليد عام 1910، لم يكن يشتغل بأي مهنة؛ بل كان ثريًا وأرستقراطيًا كوالده أحمد حسن، وقد سكنت عائلة النواب قصرًا فخمًا.
في عام 1963، اضطر النوّاب للهرب من العراق بعد اشتداد الصراع السياسي بين القوميين والشيوعيين، وقد كان هروبه إلى إيران عن طريق البصرة عبر البساتين المتاخمة للحدود مع إيران، وقد احتضنه الفلاحون في الأهوار، وضمدوا جروحه وساعدوه في الوصول إلى العاصمة طهران في طريقه إلى روسيا، لكنه فشل في عبور الحدود الإيرانية الروسية؛ فألقي القبض عليه في قرية قريبة من الحدود اسمها (استارات) وأعيد إلى طهران حيث أخضع للتعذيب الجسدي والنفسي على أيدي جهاز الأمن الإيراني، وفي العام نفسه سلمته السلطات الإيرانية إلى العراق، وهناك قُدم النواب إلى المحكمة العسكرية العراقية، فطلب المدعي العام العسكري الحكم عليه بالإعدام إلا أن مساعي أهله وأقاربه نجحت في تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد، ثم حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات إضافة إلى المؤبد بسبب قصيدته الشعبية الشهيرة “البراءة” ثم نقل إلى سجن “نقرة السلمان” في عمق الصحراء الجنوبية الغربية من العراق، قرب الحدود السعودية، ثم نقل إلى سجن “الحِلّة” جنوب بغداد، في هذا السجن بدأ النوّاب بالتخطيط للهروب في عام 1967، وتمت العملية بنجاح.
بعد هروبه من السجن توجه إلى بغداد وبقي متخفيًا فيها ستة أشهر، ثم توجّه بعد ذلك إلى الأهواز في الجنوب، حيث انطلق الكفاح المسلح في الريف وعاش مع الفلاحين، وبعد عام1968، صدر عفو عام عن الهاربين فرجع إلى سلك التعليم في بغداد، وعين في حي المنصور ثم ما لبث أن حدثت موجة من الاعتقالات في صفوف الشيوعيين، بعد قيامهم بعمليات اغتيال شملت عددًا من الشيوعيين الذين تعاونوا مع السلطة الحكومية، فتم اعتقاله في تلك الحملة, إلا أنّ مساعي بعض السياسيين أثمرت في إطلاق سراحه والسماح له بالسفر إلى بيروت للإشراف على طبع ديوانه، فسافر إلى بيروت، وبقي فيها ستة أِشهر، وذات يوم ذهب في زيارة إلى دمشق، وعند عودته إلى الأراضي اللبنانية منع من دخولها، فرجع إلى دمشق وأقام في أحد فنادق المرجة، وفي أثناء إقامته في دمشق وجهت له دعوة لاستضافته من قبل رئاسة الجمهورية، إلا أنه اعتذر عن قبول الدعوة الرسمية، وبقي في دمشق فترة غير قصيرة، ثم سافر إلى القاهرة ومنها إلى أرتيريا وبقي هناك بضعة أشهر في معايشة واقعية مع ثوار أرتيريا، ثم عاد إلى القاهرة وبقي فيها سنة ونصف، ومنها إلى بيروت وسوريا والعراق واليونان وفرنسا واستطاع خلال إقامته في فرنسا أن يطبع ديوانه ( المساورة أمام الباب الثاني) وديوانه (وتريات ليلية) وانتهى به المشوار للاستقرار في ليبيا، وهناك كانت توجه له الدعوات لزيارة البلدان العربية كالجزائر والسودان، وأقام فيها الأمسيات الشعرية التي كان لها صدى واسع في أوساط الجمهور الذي كان يحرص على الالتقاء به والاستماع إليه بإصغاء وانشداد وحب, هكذا كانت حياة النواب مشحونة بالأخطار والتنقل والسفر والاغتراب، ويلفها الغموض الاضطراري بسبب الاستهداف الدائم الذي يستشعره النواب بصورة متواصلة إضافة إلى التعذيب النفسي والجسدي الذي تلقاه على أيدي السلطات بسبب مواقفه السياسية من الحكام العرب، هذه الهزات الحياتية العنيفة التي تعرض لها النوّاب، وعلى رأسها النفي خارج الوطن، ولدّت لديه موقفًا معاديًا للأنظمة العربية كافة، فقد نظر النواب إلى الواقع العربي فرأى فيه ازدواجية ومزاوجة في التعامل، فيبدو أنّ هذه النظرة جعلته يساجل اللغة ويمازج بين عدة مستويات لغوية تتماشى مع تراثه الثقافي من جهة، وعلاقته بالعالم الخارجي من جهة أخرى، وتنوعت هذه المستويات لتتوزع بين المستوى الفصيح والمستوى العامي، فجعل النواب اللغة الشعرية سلاحًا أشهره في وجه الأنظمة العربية؛ ليقطف به ثمر الشهرة الواسعة التي وصل إليها بأشعاره, تجربة مظفر النواب عمرها نصف قرن من الرفض والمجابهة وهتك الأقنعة الرسمية غاص خلالها في أقصى حمم اللغة وبلاغتها, من دون أن يدير ظهره لجمهوره، فبسبب المكابدات الطويلة في السجون والنفي خارج وطنه تولد –عن ذلك كله- الشعر العامي من رحم “الأهوار” شديد القسوة في الأوصاف, لكنه في النهاية عاش ومات ولم يَخَفْ.