ثقافة

“الأستطيقا” فلسفة علم الجمال.. مفاهيم وإشكاليات بين الغرب والعرب

عندما نُصدر حُكما على شيءٍ ما بأنًّه جميل، هل يكون حكمُنا هذا حُكمًا موضوعيًا متعلقًا بوجود خصائص جمالية مميزة لهذا الشيء عن غيره، أم أنَّ حكمنا هذا حكمٌ ذاتيٌ ناتجٌ عن شعورٍ يتأسس إدراكيًا على نحو خاص؟

إنَّ إجابة هذا السؤال وغيره من الأسئلة، هي موضوع فلسفة الجمال أو (الأستطيقا)التي عرَّفها الفيلسوف الألماني “باومجارتن” بأنَّها تلك الدراسات التي تدور حول منطق الشعور والخيال الفني، وهو منطقٌ يختلف كل الاختلاف عن منطق العلم والتفكير العقلي، وقد أسس هذا التعريف لتباين مجال علم الجمال عن مجال المعرفة النظرية، وعن مجال السلوك الأخلاقي أيضا.

ولكن تأسيس “باومجارتن” للأستطيقا لا يجعلنا نهمل التاريخ القبلي لعلم الجمال الذي يشير “دانييل شارل” إلى  أنَّه يعود إلى أفلاطون؛ عندما ميَز بين الشكل والمادة، وأعلن أنَّ  الجمال بالنسبة له  يَكْمُن في التعارض بين هذين المكونين.

باومجارتن
باومجارتن

وفي كل ما هو مرئي مثالي يعتبر الجمال شرطا للروعة، وعلى الفنان أن يقترب ليقوم بعملية المحاكاة؛ إذ أنَّ الجميل لا يسطع إلا فيما هو محسوس، والفن لا يمكن أن يكون هامشيا بالنسبة لما هو جميل بشكل حقيقي، كما أنَّه يتمفصل كوسيط بين المحسوس واللامحسوس.

أما أرسطو فقد حدد  في كتابه مجموعة خصائص أو مكونات أساسية للجمال بدرجة تضمن له الاكتمال في الشكل والاعتدال في الأسلوب؛ لذلك نجده يُلِحُّ على أهمية الانسجام والتآلف أو (الهارموني) والوضوح والكلية في الفنون الدرامية التراجيدية القائمة على أساس المحاكاة، فالفنون لها قيمتها العالية لأنَّها تُصحح النقائص الموجودة في الطبيعة؛ لذلك اعتبر الجمال خاصية من خصائص العمل الفني أو الموضوع الطبيعي.

أما الفيلسوف الألماني “كانط” فقد انتهى إلى أنَّ الخبرة الجمالية لا ترجع إلى النشاط النظري الذي يقوم به الذهن، والذي يحدد شروط المعرفة في علوم كالرياضيات والفيزياء، كما لا ترجع إلى النشاط العلمي الذي يحدد السلوك الأخلاقي المعتمد على الإرادة.

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ويُرجع “كانط” الخبرة الجمالية إلى الشعور باللذة  المستند إلى اللعب الحر بين الخيال والذهن.. ويرى أنَّ الجمال لا يرجع للأشياء وإنما مصدره الذات، ولكنه مع ذلك ليس ذاتيا صِرْفا، كما أنَّه ليس مجرد شعور، ولكن فيه صفات الكلية والضرورة.

لقد شكَّل مشروع “كانط” في التأسيس لفلسفة علم الجمال أهمية خاصة باعتباره مجالا خاصا للخبرة الإنسانية إذ قدَّم حُجَجا قوية لتدعيم فكرة استقلالية الفن وجماله، فالأحكام الجمالية لديه ذاتية وعامة يشارك فيها كل فرد يمتلك ذوقا جيدا، فيما اعتبر النشاط الجمالي نوعا من اللعب الحر للخيال، وعُدَّت البهجة الخاصة بالجميل والجليل بهجة بالملكات المعرفية الخاصة بالخيال والحكم، وقد تحررا من خضوعهما للعقل والفهم أي تحررا من قيود الخطاب المنطقي، وهو بهذا قد أعاد لمفهوم الذات قيمته المعرفية، فإليه أصبح ينتمي الحكم الجمالي، باعتباره ذلك الحكم الذي يقوم أساسا على شعور خاص بالمتعة، وذلك عندما يكتشف المرء التوافق خارجه أو داخله، ويشعر به على نحو خاص.

ويذهب “مايكل دوفرين” إلى أنَّ الجميل هو شيءٌ وليس فكرةً، وهو موضوعٌ محسوسٌ، يمنح للمعرفة المحسوسة، كما أنًّ  هذا الجميل ما هو إلا محمول إسنادي يصف المواضيع الممنوحة للإدراك، وهذه المواضيع لا تمارس الإدراك إلا بالتماس الذاتية، أما عن مكمن الموضوع الجمالي فيرى “دوفرين” أنَّ مكمنه في الطبيعة والفن.

مايكل دوفرين
مايكل دوفرين

إنَّ الجمال كامن في الطبيعة؛ غير أنَّ جمال الطبيعة ليس موضوعًا من موضوعات علم الجمال، فالجمال المدرك في الطبيعة لا يقتضي من الإنسان ممارسةً دائبةً؛ بل هو إدراكٌ مباشرٌ مثله مثل الإدراك العادي للأشياء والموجودات، التي تُستجلى حقائقها فيزيائيا، أما إحساس الإنسان بالجمال فلا يرتقي إلا بواسطة الفن، كما لا يدرك الواقع إلا بواسطة العلم.

ويرى “جورج سانتيانا” أنَّ الجمال لا يمكن أن يُوجد مستقلا بعيدا عن إحساس الإنسان الذي لابد أن يكون مصحوبا بإدراكٍ وبحكمٍ نقدي أو بفعل تفضيل، فنحن لا نُفضِّل الأشياء لأنَّها تنطوي على جمال معين، بل إنَّ جمال الأشياء وقيمتها هو انعكاسٌ لتفضيلنا إياها.

ويُفَرِّق “سانتيانا” بين الأحكام الأخلاقية والأحكام الجمالية، على أساس القول بأنَّ  القيم الأخلاقية هي قيمٌ سلبيةٌ بمعنى أنَّنا لابد أن ندرك الشر كي ننهى عنه، في حين أنَّ الحكم بالجمال قائمٌ على الخبرة المباشرة والإيجابية بالموضوع، ولا يتحتم أن ندركَ القبيح كي ننهى عنه.

جورج سانتيانا الاحساس بالجمال

أما بالنسبة للعرب والمسلمين فإنَّ علم الجمال وفلسفته قد تبدت ملامحه الأولى مع  الفارابي الذي مزج بنزعة رومانسية صوفية تحمل في طياتها الروح الشرقية الإسلامية مابين الفلسفة الجمالية عند كل من أفلاطون وأرسطو،  وهذا واضح في كتابه الموسيقي الكبير، وقد كان الجمال بالنسبة للفارابي هو تحقيق القيم الخيِّرة في الأشياء الجميلة من خلال بنائها وترتيبها، كما اعتبر الفن صفةً حسِّيةً أساسها التجريب، والفنان عنده  يستطيع التقرب من العقل الفعَّال عن طريق نُسُكِه وتنقية نفسه من شوائب المادة، كما أنَّ العملية الإبداعية عنده عملية إنسانية بفعل بناء الفنان الشخصي وإمكانيته الفكرية، وهي نتاج خلّاق يمكن أن يُضْفِي على جماليات الطبيعة جمالا أكبر.

أما ابن سينا فقد تعامل مع مقولاتٍ جمالية اقترنت بتأليف الألحان إلا أنَّها تدخل ضمن النسق البنائي لمجالات الفن الأخرى.. ومن تلك المقولات مقولة (النغم) الخاصة بالتأليف ومقولة (الإيقاع) الخاصة بالأزمنة المتخللة بينها، كما أشار إلى مقولة (الأضداد) بين اللين والخشونة والسعة والبعد وضرورة تناسب تشكلهما فيكون التناسب  الأول من حيث قدرهما، بحيث أحدهما زائد والآخر ناقص، أما التناسب الثاني فهو الذي يكون طويلاً أو قصيرًا بالقياس إلى الثالث، أما الإيقاع فيكون مقبولاً عند مناسبته للطبع، والإيقاع إما بسيط أو مركب، والمركب منه الثنائي ومنه فوق ذلك وقد يأتي من جنس واحد أو من جنسين مختلفين، فاللحن البسيط المحاط بإيقاع متصل واحد بينما اللحن المركب محاط بإيقاعات مختلفة، كما أشار ابن سينا إلى معيار التميّز بوصفه خاصية  يتفرد بها المتمايز عن باقي أفراد مجموعته، فقد يتحقق التميّز وفق رأيه بين الإنساني وغير الإنساني أو التميُّز بالمعنى، بحيث يتميز الشيء بمعنى يدل عليه يتميز به عن أشياء مشتركة في معنى واحد، وهذا يعني أنَّ  تميُّز الشيء يكون بعزله وفرزه عن باقي الأشياء المتواجد معها، وذلك بمنحه أمرًا يختص به دون غيره كمًا أو نوعًا.

ابن سينا
ابن سينا

وقد ميَّز أبو حامد الغزالي بين الجمال المدرك بعين الرأس الذي يعكس جماله، وهو مدركٌ لذاته وبين الجمال المدرك بعين القلب، وهو مدركٌ آخر وأيضا لذاته؛ مُقَسّمًا الجمال إلى جمال ظاهر وجمال باطن، إلا إنَّه لا يستبعد تمازج جمال الظاهر والباطن عندما يؤكد دور الحواس في إدراك الجمال الظاهر والتي بقبولها لما تدركه واستحسانها له؛ تمهد الطريق للبصائر الباطنية لإدراك الجمال الباطني للتشكيل الحسي الخارجي.

أما الصوفية والتي اقترنت منذ البدء بالتأويل؛ شغفًا بالوصول إلى تحصيل الحقيقة ومستوى الغموض الذي يكتنفها عندما تتعلق بالمطلق، وهذا التوجه يمثل حقيقة البحث الجمالي لدى الصوفية والذي يكمن فيما خالف الحسي، إذ  يبدو الجمال في نظرهم متجاوزا مظاهره الحسية مقابل النظر في الوجود على المستوى الأنطولوجي الذي من شأنه أن يعكس القيمة الجوهرية لتحقيق الجمالية، وما تعكسه هذه الصورة من تطابق لآثار جمالها في الوجود.

لقد كانت الرؤية الصوفية  نزوعًا نحو معرفة إرادة الحق عبر رموز الموجودات وما لها من التجلي والقدرة الإبداعية من ذات الحق وهو ما برهن عليه المتصوفة  من خلال تعلقهم بالباري سبحانه وتعالى.

وتعتمد تجربة الكشف الصوفي البحث في جمال المطلق الذي ينعكس في الحسيات التي هي نتاج عنه، ومن ثَمَّ يستدعي البحث فيها المرور بمراحل الكشف المعرفي نحو المطلق، فضلاً عن طرق أدائية جسدية تتناغم معها في حصول تلك المعرفة الخاضعة إلى التناقض حتى مع ذاتها في رحلة الكشف الصوفي، لذا فإنَّ جمالية التصوف تعتمد التجربة الكشفية، إذ يكون الوصول إلى المعرفة المطلقة غير متاح، ما يُبْقِي عملية الكشف مستمرة؛ سعيًا وراء مراحل كشف جزئي تحقق اللذة الجمالية لكل مرحلة كشف، ضمن جدلية العلاقات الكشفية المتناقضة في طريق المعرفة المطلقة.

ولا يمكننا أن نغض الطرف  عن رؤية أبي الوليد أحمد ابن رشد الذي ربط الجميل بالفضيلة،  وهو توجه أخلاقي يبغي تعزيز دور الخير و إبانة شأن ما هو سامي، إذ  أنَّ الجميل هو الذي يُختار من أجل نفسه، وهو ممدوح وخيِّر، من جهة أنَّه خيرٌ.وإذا كان الجميل هو هذا فبيِّنٌ أنَّ الفضيلة جميلةٌ لا محالة لأنَّها خير وهي ممدوحةٌ.

ابن رشد
ابن رشد

ويقود ذلك إلى أنَّ النفعية برأي ابن رشد معيارٌ مهمٌ في الحكم الجمالي؛ لذا فهي تدخل ضمن المعايير الجمالية لانطوائها على صيرورة البقاء في كل منجز مع مراعاة ابتكار الأساليب التشكيلية لتحقيق هذه الغاية المضمونية ووضوحها بحيث تجمع الآراء الذوقية حولها دون أن تُلغي دور المعايير الجمالية الأخرى لاسيما الأخلاقية؛ بل وتعزز دورها نتيجة اقتران الجمال بما هو خير ونافع.

وليس من الإنصاف أن نغفل ما وصل إليه أبو حيان التوحيدي الذي يعد بحق واضع علم الجمال العربي، إذ اقترب التوحيدي من المنهج الذاتي أو العقلي الذوقي النسبي تارة، ومن الموضوعية الحسية  المعيارية تارة أخرى، وخرج بموازنة فريدة بين الاتجاهين، من خلال محاولته تحديد مقاييس ومعايير تحدد وتفسر جمال الجميل، ومعالجته للجوانب الذاتية العقلية والذوقية والاجتماعية في آن.

يقول التوحيدي: فأما الحسن والقبيح فلا بد لهما من البحث اللطيف عنهما؛ حتى لا يجوز، فيُرى القبيح حسنًا، والحسن قبيحًا، فيأتي القبيح على أنَّه حسنٌ، ويرفض الحسنُ على أنَّه قبيحٌ، ومناشئ الحسن والقبيح كثيرةٌ، منها طبيعي، ومنها بالعادة، ومنها بالشرع، ومنها بالعقل، ومنها بالشهوة.

والملاحظ هنا كما يورد الدكتور عز الدين إسماعيل أنَّ التوحيدي قد لمس خمسة عناصر موضوعية وذاتية وذوقية مختلفة، تشترك في تكوين الجميل وتُـؤثر في تقديره، وهي العنصر الطبيعي والاجتماعي والديني والعقلي وأخيرًا الشهواني، وهو إذ يحدد هذه المعايير الموضوعية والذوقية الذاتية والاجتماعية والدينية المتداخلة، يؤسس لنظرية مهمة في علم الجمال، سبق بها نظريات علم الجمال في الغرب؛ فنظريته تجمع بين كثير من النظريات الجمالية المعاصرة؛ وذلك لأنَّ فلسفة التوحيدي الجمالية واقعية ومتوازنة تجمع بين علم الجمال التجريبي المعياري، والوضعي التحليلي، وبين المثالية العقلية الميتافيزيقية.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock