ثقافة

مشاعل إسلامية (22): الخوارزمي.. و”مفاتيح العلوم”

الخوارزمي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف (ت 387 هـ) هو صاحب ومؤسس علم “الجبر والمقابلة”.. وفي الوقت نفسه، صاحب إحدى أهم المحاولات الجادة والدقيقة لتصنيف العلوم، في الفكر العربي الإسلامي. هذا التصنيف الذي احتل مكانة كبيرة عند العرب، حيث كان الاهتمام بتصنيف العلوم، وبيان مكانة كل علم من العلوم وعلاقته بالعلوم الأخرى.

والواقع، أن الخوارزمي، من خلال كتابه “الجبر والمقابلة”.. إنما كان يمثل نقطة التلاقي بين الرياضيات العربية والفقه الإسلامي، خاصة إذا لاحظنا إن علم المواريث (الفرائض) كان أقرب إلى الرياضيات من أي علم آخر في الثقافة العربية.

يشير إلى ذلك الخوارزمي نفسه، حينما يؤكد في مقدمة “الجبر والمقابلة” على أنه ألّفَ هذا الكتاب من أجل “ما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم، وفي مقاسماتهم وأحكامهم وتجارتهم”. ولذلك نجده يخصص القسم الثاني من كتابه للمسائل الفقهية تحت عنوان “كتاب الوصايا” بعد أن شرح في القسم الأول القضايا النظرية العامة من جذور ومعادلات وغيرها.

الجبر والمقابلة

مفاتيح العلوم

وإذا انتقلنا من “الجبر والمقابلة” إلى “مفاتيح العلوم” وهو أهم كتاب للخوارزمي، وجدناه يلجأ فيه إلى أساس للتصنيف، يعد مخالفا للأساس الذي كان عند الكندي والفارابي.. هذا بالإضافة إلى أن الخوارزمي في تصنيفه للعلوم؛ إنما يضيف إلى مجموعة العلوم الفلسفية علم الطب والكيمياء.

لقد قسم الخوارزمي العلوم إلى قسمين كبيرين، وحدد كل العلوم التي تدخل تحت كل قسم.. القسم الأول، هو العلوم الشرعية وما يتصل بها. والقسم الثاني، هو العلوم النفسية.. وقد أدرج تحت العلوم الشرعية علم الفقه، وعلم الكلام، والنحو، والكتابة، والشعر، والعروض، والأخبار.. أما العلوم الفلسفية ـ أي العلوم التي جاءت من اليونان وغيرها من الأمم ـ فإنها تتمثل، في ما يرى الخوارزمي، في “الفلسفة والمنطق، والطب، والحساب (علم العدد) والهندسة، والفلك (علم النجوم) والموسيقى، والحيل، والكيمياء”.

ويحلل الخوارزمي تحليلاً دقيقاً موضوع كل علم من العلوم الشرعية وما يتصل بها، وموضوع كل علم من العلوم التي وصلت إلينا من بلاد اليونان، وكذا من غيرها من الأمم.

مفاتيح العلوم
مفاتيح العلوم

أصول الفقه

فعلى سبيل المثال، حين يتحدث في أول كتابه عن أصول الفقه يقول: “إن أصول الفقه المتفق عليها ثلاثة.. كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم– وإجماع الأمة. والمختلف فيها ثلاثة: القياس، والاستحسان، والاستصلاح. فأما كتاب الله سبحانه، فإن سبيل الفقه أن يعرف تأويله ووجوه الخطاب فيه من الخصوص والعموم والناسخ والمنسوخ والأمر والنهي والإجابة والحظر.. إلى غير ذلك مما نجده في التفاسير وكتب أصول الدين.

وأما سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم– فإنها تتمثل في القول والفعل والإقرار. والإجماع هو اتفاق الصحابة من المهاجرين والأنصار، واتفاق العلماء في كل عصر دون غيرهم من العامة. وأما القياس فقد قال به جمهور العلماء غير داود بن علي الأصفهاني ومن تبعه. والاستحسان هو ما تفرد به أبو حنيفة وأصحابه، ولذلك سموا أصحاب الرأي. والاستصلاح هو ما تفرد به مالك بن أنس وأصحابه”.

وهكذا، نجد الخوارزمي يحلل تحليلاً كاملاً علم الفقه كأحد العلوم الشرعية، ويمضي بعد ذلك في تحليل بقية العلوم الشرعية وما يتصل بها.. وإذا كان الخوارزمي قد اهتم بتحليل العلوم الشرعية وما يتصل بها من العلوم العربية، فإنه يدرس أيضا بدقة العلوم التي وصلت عن اليونانيين وغيرهم من الأمم.

بل إن الأمر الجدير بالملاحظة هنا، أن الخوارزمي في تصنيفه الدقيق للعلوم، إنما كان في ما يبدو على اطلاع واسع على الثقافات الإسلامية وغيرها من ثقافات جاءت من أمم أخرى.

ولعل هذا ما جعل المحاولة التي قام بها الخوارزمي، في مجال تصنيف العلوم، من المحاولات الرائدة والمهمة، والتي لا يمكن تجاوزها إذا أردنا أن نتحدث عن تاريخ التصنيف أي تصنيف العلوم عند العرب.

بيد أن الأمر الأهم هنا، هو ارتباط علم الجبر بالخوارزمي –لاحظ أن كلمة “لوغاريتم” في اللغات الأوروبية تعود إلى خوارزم أو الخوارزمي– ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن إنشاء علم الجبر والمقابلة إنما يرتبط بالحاجة إلى تطوير علم الفقه النظري، وبكيفية خاصة علم الفرائض (المواريث). إذ أن هذه الحاجة، قد دفعت بالرياضيات العربية إلى التطور والتجديد (مثلما كانت الفيزياء في العصر الحديث قد دفعت بالرياضيات مع ديكارت ونيوتن، وغيرهما، إلى التجدد والانطلاق).

ولعل مما له دلالة في هذا الصدد، أن يقوم صاحب كتاب “مفاتيح العلوم” بتعريف الجبر والمقابلة، كما يلي: “الجبر والمقابلة صناعة من صناعات الحساب وتدبير حسن لاستخراج المسائل العويصة في الوصايا والمواريث والمعاملات والمطارحات”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker