ترجمة: كريم سعد
مع كسب القوات الروسية للأرض في أوكرانيا، يبدو أن رئيس هذا البلد وحلفاءه يتفقون جميعا على نقاط محددة: يجب على أوكرانيا أن تقاتل من أجل النصر واستعادة الوضع الذي كانت عليه الأمور قبل الحرب. وأن تتخلى روسيا عن المكاسب الإقليمية التي حققتها منذ فبراير. وألا تعترف أوكرانيا بضم شبه جزيرة القرم ولا بالدويلات الانفصالية في دونباس، وتواصل السير على الطريق نحو عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
وبالنسبة لروسيا، فإن مثل هذه النتيجة من شأنها أن تمثل هزيمة واضحة. ونظرا للتكاليف الهائلة التي دفعتها موسكو بالفعل، إلى جانب احتمال عدم رفع العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة عليها في أي وقت قريب، فإن موسكو سوف تحصد أقل من لا شيء من هذه الحرب. والواقع أنها سوف تتجه نحو الضعف الدائم أو على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن “ضعيفة إلى الحد الذي يجعلها عاجزة عن القيام بالأشياء التي كانت تفعلها قبل غزو أوكرانيا”.
واقترح مؤيدو أوكرانيا نظريتين لتحقيق النصر. الأولى تتم عن طريق أوكرانيا. وبمساعدة الغرب، حيث أنه يُمكن لأوكرانيا أن تهزم روسيا داخل ساحة المعركة، عن طريق استنزاف قواتها وأن تتفوق عليها بدهاء. والثانية من داخل موسكو نفسها. فمع مزيج من مكاسب ساحة المعركة والضغوط الاقتصادية، يمكن للغرب إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإنهاء الحرب – أو إقناع شخص ما في دائرته باستبداله بالقوة.
لكن نظريتي النصر هذين ترتكزان على أسس هشة. فمن ناحية أوكرانيا، من المرجح أن يكون الجيش الروسي قويا بما يكفي للدفاع عن معظم مكاسبه. ومن ناحية روسيا، الاقتصاد مستقل بما فيه الكفاية وقبضة بوتين محكمة جيدًا بحيث لا يمكن إجبار الرئيس على التخلي عن هذه المكاسب أيضا. والنتيجة الأكثر ترجيحا للاستراتيجية الحالية إذن ليست انتصار أوكرانيا، بل حربا طويلة ودموية وغير حاسمة في نهاية المطاف. إن الصراع الذي طال أمده سيكون مكلفا ليس فقط من حيث الخسائر في الأرواح البشرية والأضرار الاقتصادية ولكن أيضا من حيث التصعيد – بما في ذلك الاستخدام المحتمل للأسلحة النووية.
ويتحدث قادة أوكرانيا ومؤيدوها كما لو أن النصر قاب قوسين أو أدنى. ولكن يبدو أن هذا الرأي ضربٌ من الخيال. وعلى هذا فيتعين على أوكرانيا والغرب أن يعيدا النظر في طموحاتهما، وأن يتحولا من استراتيجية لكسب الحرب إلى نهج أكثر واقعية: إيجاد حل وسط دبلوماسي ينهي القتال.
النصر في ساحة المعركة؟
ويزعم الكثيرون في الغرب أن الحرب يمكن كسبها على الأرض. وفي هذا السيناريو، سوف تدمر أوكرانيا القوة القتالية للجيش الروسي، ما سيتسبب في تراجع القوات الروسية أو انهيارها. في وقت مبكر خلال الحرب، جادل مؤيدو أوكرانيا بأن روسيا يمكن هزيمتها من خلال الاستنزاف. ويبدو أن الحسابات البسيطة تحكي قصة جيش روسي على وشك الانهيار. حيث أنه في أبريل، قدرت وزارة الدفاع البريطانية أن 15 ألف جندي روسي لقوا حتفهم في أوكرانيا. وإذا افترضنا أن عدد الجرحى كان أعلى بثلاثة أضعاف، وهو المتوسط المتعارف عليه منذ الحرب العالمية الثانية، فإن هذا يعني ضمنا أن ما يقرب من 60 ألف روسي قد خرجوا من الخدمة. وتشير التقديرات الغربية الأولية إلى أن حجم القوة الروسية في الخطوط الأمامية في أوكرانيا يبلغ 120 مجموعة تكتيكية من الكتائب، والتي سيبلغ مجموعها 120 ألف شخص على الأكثر. ولو كانت تقديرات الإصابات هذه صحيحة، لكانت معظم قوات الوحدات القتالية الروسية قد انخفضت إلى أقل من 50 في المئة، وهو رقم يشير الخبراء إلى أنه يجعل الوحدة القتالية غير فعالة مؤقتا على الأقل.
وتبدو هذه التقديرات المبكرة الآن مفرطة في التفاؤل. فإذا كانت دقيقة، فأنه من المفترض أن ينهار الجيش الروسي الآن. لكنه بدلا من ذلك، تمكن من تحقيق مكاسب بطيئة ولكن ثابتة في دونباس. وعلى الرغم من أنه من الممكن أن تثبت نظرية الاستنزاف صحتها يوما ما، إلا أن هذا يبدو غير مرجح. حيث أنه من الوارد أن الروس تكبدوا خسائر أقل مما اعتقد الكثيرون أو أنهم وجدوا مع تلك الخسائر – إن كانت حقيقة – طريقة للحفاظ على العديد من وحداتهم في مستوى القوة القتالية. فأنه بطريقة أو بأخرى، يجدون جنود احتياط، على الرغم من عدم رغبتهم المعلنة في إرسال المجندين الجدد أو جنود الاحتياط المعبئين إلى الجبهة. لكنه إذا جاءت الحاجة الملحة للدفع بهم، فيمكنهم التخلي عن هذا التردد.
وإذا كان يبدو أن نظرية الانهيار من خلال الاستنزاف قد فشلت في اختبار المعركة بالفعل، فهناك خيار آخر: يمكن للأوكرانيين أن يتفوقوا على الروس. حيث إنه يمكن للقوات الأوكرانية أن تهزم العدو في حرب آلية، بالدبابات والمشاة والمدفعية المصاحبة، تماما كما هزمت إسرائيل أعداءها العرب في حرب الأيام الستة عام 1967، وحرب يوم الغفران عام 1973*. فروسيا وأوكرانيا لا تملكان ما يكفي من الوحدات القتالية الآلية للدفاع بكثافة عن جبهاتهما الشاسعة، وهو ما يعني من حيث المبدأ أن أيا من الجانبين يجب أن يكون عرضة للهجمات الآلية السريعة والضاربة. ولكن حتى الآن، لا يبدو أن أيا من الجانبين قد لجأ إلى مثل هذه التكتيكات. وربما تجد روسيا أنها لا تستطيع تركيز قواتها لمثل هذه الهجمات دون أن تراقبها الاستخبارات الغربية، وقد تعاني أوكرانيا من تدقيق مماثل من قبل المخابرات الروسية. ومع ذلك، يمكن لمدافع حذر مثل أوكرانيا أن يجذب عدوه إلى الإفراط في توسيع نفسه. حيث أنه يمكن للقوات الروسية أن تجد أجنحتها وخطوط إمدادها عرضة للهجمات المضادة – كما يبدو أنه حدث على نطاق صغير حول كييف في المعارك المبكرة للحرب.
مثلما أنه من غير المرجح أن ينهار الجيش الروسي من خلال الاستنزاف، فمن غير المرجح أيضا أن يخسر من خلال التغلب عليه. فيبدو أن الروس الآن حكماء في المناورات التي جربتها أوكرانيا في وقت مبكر. وعلى الرغم من ندرة التفاصيل، إلا أن الهجمات المضادة الأخيرة التي شنتها أوكرانيا في منطقة خيرسون لا يبدو أنها تنطوي على الكثير من المفاجأة أو المناورة. بدلا من ذلك، يبدو أنها تبدو وكأنها نوع من الهجمات البطيئة والطاحنة التي شنها الروس أنفسهم في دونباس. ومن غير المرجح أن يتغير هذا النمط كثيرا. فعلى الرغم من أن الأوكرانيين – بحكم أنهم يدافعون عن وطنهم- هم أكثر حماسا من الروس، فلا يوجد سبب للاعتقاد بأنهم متفوقون بطبيعتهم في الحرب الآلية. فالتميز في ذلك يتطلب قدرا كبيرا من التخطيط والتدريب. وبالطبع فقد استفاد الأوكرانيون من المشورة الغربية، لكن الغرب نفسه قد يكون خارج الممارسة مع مثل هذه العمليات، حيث لم يشن حربا آلية منذ عام 2003، عندما غزت الولايات المتحدة العراق. ومنذ عام 2014، ركز الأوكرانيون جهودهم على إعداد القوات للدفاع عن الخطوط المحصنة في دونباس، وليس للحرب المتنقلة.
والأهم من ذلك أن قدرة البلد على شن حرب آلية ترتبط بتنميته الاجتماعية والاقتصادية. فهناك حاجة إلى كل من المهارات التقنية والإدارية للحفاظ على الآلاف من الآلات والأجهزة الإلكترونية في حالة عمل وتنسيق الوحدات القتالية البعيدة وسريعة الحركة في نفس الوقت. ولدى أوكرانيا وروسيا مجموعات سكانية ماهرة مماثلة يمكن سحب جنودهما منها، فلذلك من غير المرجح أن تتمتع الأولى بميزة في الحرب الآلية.
ومن الحجج المضادة المحتملة أن الغرب قادر على تزويد أوكرانيا بمثل هذه التكنولوجيا المتفوقة التي تمكنه من تحسين موقفها أمام الروس، مما يساعد كييف على هزيمة عدوها إما من خلال الاستنزاف أو الحرب المتنقلة. لكن هذه النظرية خيالية أيضا. حيث أن روسيا تتمتع بميزة ثلاثة إلى واحد في عدد السكان والناتج الاقتصادي، وهي فجوة يصعب حتى على الأدوات عالية التقنية سدها. وربما ساعدت الأسلحة الغربية المتقدمة، مثل صواريخ “جافلين” و”نالو” الموجهة المضادة للدبابات، أوكرانيا على جعل الروس يدفعون ثمن باهظ. ولكن حتى الآن، استخدمت هذه التكنولوجيا -إلى حد كبير- للاستفادة من المزايا التكتيكية التي يتمتع بها المدافعون بالفعل – مثل الغطاء، والإخفاء، والقدرة على توجيه قوات العدو من خلال العقبات الطبيعية والعقبات التي يصنعها الإنسان- ومن العسير أن يتم استغلال هذه التكنولوجيا المتقدمة للاستمرار في الهجوم ضد خصم يمتلك ميزة كمية كبيرة، لأن القيام بذلك يتطلب التغلب على كل من الأرقام المتفوقة والمزايا التكتيكية للدفاع. وفي حالة أوكرانيا، فليس من الواضح ما هي التكنولوجيا الخاصة التي يمتلكها الغرب والتي من شأنها أن تفيد الجيش الأوكراني إلى الحد الذي يجعلها قادرة على كسر الدفاعات الروسية.
ولفهم الصعوبة التي تواجهها أوكرانيا، فكر في فشل ألمانيا النازية في آخر هجوم كبير لها في الحرب العالمية الثانية، معركة الثغرة في ديسمبر 1944، فاجأ الألمان الحلفاء في غابة آردن بتركيز فرق ميكانيكية ومشاة ضد امتداد أمامي يبلغ طوله 50 ميلا. حيث كانوا يأملون في تحطيم دفاعات الحلفاء في بلجيكا، وتقسيم الجيشين الأمريكي والبريطاني، والاستيلاء على ميناء أنتويرب الحيوي، وتعطيل المجهود الحربي للحلفاء. راهن الفيرماخت على أن مهارته في الحرب المدرعة، وتفوقه العددي المحلي الذي تم تجميعه بشق الأنفس، وتكنولوجيا مركباته المدرعة المتقدمة من شأنها أن تتغلب على المزايا المشتركة التي يتمتع بها الجيشان الأمريكي والبريطاني من حيث القوة البشرية والمدفعية والقوة الجوية. وعلى الرغم من أن الألمان كانوا قادرين على تحقيق المفاجأة وتمتعوا ببضعة أيام من النجاح، إلا أن العملية سرعان ما تعثرت. فسرعان ما اكتشف القادة الغربيون ما كان يحدث واستخدموا بكفاءة تفوقهم في العتاد للتغلب على التقدم. واليوم، يبدو أن البعض يقترح أن يجرب الأوكرانيون استراتيجية مماثلة للألمان للتغلب على قيود مماثلة. ولكن لا يوجد سبب مقنع للاعتقاد بأن الأوكرانيين سوف يكون أداؤهم أفضل.
*هُزمت إسرائيل في حرب يوم الغفران ولم تنتصر.