تتجمد الحياة ويصيبها الركود إذا توقف البشر عن الإبداع، ولا يمكن للطاقات الإبداعية الإنسانية أن تبرز دون خلق مُناخ ملائم للإبداع تسوده الحرية، ولولا اجتهاد كل مبدع وإصراره على إبراز موهبته التي يحتضنها في أعماقه؛ لما كان لدينا الآن كل من نفخر بهم من عمالقة المبدعين. وإذا كان الفن هو أحد أهم مجالات الإبداع الذي به ترتقي الأمم وتُبنى الحضارات، فإن مصر التي أنجبت الكثير من المبدعين في كافة المجالات –على مدار تاريخها– تستحق الآن أن تمد العالم بعدد أكبر من المبدعين، ولا تكتفي بما قدمته في الماضي؛ بل تستعد للغد بما هو أفضل من كل ما مضى. صحيح أن الفن الخالي من الإبداع قد يحقق بعض الأرباح، وقد يستمر لبعض الوقت، ولكن العمل الإبداعي وحده هو الذي يمنح الخلود لكل من ساهم فيه، وتلك هي القيمة الحقيقية لأي مُنتَج فني – أن يكون على درجة ما من الإبداع والتميز.
وميلاد مبدعٍ جديد، هو أمر لا يحدث كل يوم؛ لذلك علينا أن نحتفي بكل بذرة طيبة، يمكن أن تثمر فيما بعد ثمرة يانعة في شجرة الإبداع الوارفة الظلال. وفي هذا العام ومن خلال السباق الرمضاني المزدحم بالأعمال الدرامية، والتي للأسف تصيب المشاهد بالتخمة، شاهدنا صورة إبداعية متميزة صاغها بقلمه الكاتب والسيناريست المبدع عبد الرحيم كمال، وأخرجها للشاشة المخرج الواعد حسين المنباوي، وترسخت في أذهان الناس باسم “جزيرة غمام”.. ولم تكن المفاجأة في قدرة الكاتب على تقديم سيناريو متميز ومحكم البناء، أو تمكنه من صياغة حوار مؤثر في كلماته وقوي في عباراته وجمله والتي أداها ببراعة كل من جسدوا شخصيات ذلك العمل، ولكن المفاجأة كانت في ذلك الحضور المبهر للفنان أحمد أمين الذي بالرغم من إطلاله على الجماهير في بداية ظهوره ككوميديان ملفت للنظر، إلا إنه قد استطاع أن يتفوق في تقمص شخصية عرفات التي بالقطع ستكون علامة بارزة في مشواره الفني المتنوع، والذي ينبئ بحالة من النضج الفني لفنان شامل، أصبح وجود أمثاله نادرًا في هذه الأيام، خاصة مع إقحام العنف و”الأكشن” في كل الأعمال الدرامية تقريبًا، بشكل غير مُبرَّر مما كان له أثر ملحوظ فيما ساد حاليًا في المجتمع من تزايد لمعدلات الجريمة سواء في الشارع أو داخل البيوت.
دراسة أمين للفنون الجميلة، ربما تكون قد أجلت ممارسته للتمثيل، ولكنها بالقطع قد أضافت لموهبته الفنية ما أصقلها؛ فالكتابة والتمثيل والإخراج وتقديم البرامج رافقهم العمل في مجال الرسوم المتحركة، وكل ذلك أثمر عن ظهوره للجمهور في بادئ الأمر ككوميديان، إلى أن أطلَّ عليهم بوجه مختلف وبعيد عن الكوميديا في “ما وراء الطبيعة”. وبالفعل كان ظهور أمين ممثلا منذ سبعة أعوام –مع بداية خطواته في احتراف التمثيل– له مذاق خاص وغير نمطي؛ إذ لم يضيق على نفسه في منطقة تمثيلية محددة، بل استطاع أن يُنوع في أدواره إلى أن أطل علينا في شهر رمضان الماضي في شخصية عرفات التي لابد أن يكون لنا معها هذه الوقفة.
لم يكن أول مشاهد أحمد أمين في مسلسل “جزيرة غمام” سوى مقدمة تراجيدية غير متوقعة، لما يمكن أن يكون عليه دور ذلك الممثل الكوميدي، الذي ألِفَ الجمهور قفشاته ومشاهده الكوميدية، ولكن عرفات أحد ورثة الشيخ مدين استطاع أن يقف طوال أحداث المسلسل بثبات وقوة أداء ملحوظ أمام فنانين مخضرمين أمثال: رياض الخولي وعبد العزيز مخيون وعايدة فهمي، وآخرين من أشهر نجوم التمثيل على مدار أعوام أمثال: فتحي عبد الوهاب وطارق لطفي ومي عز الدين. فكيف تفوّق أمين في تجسيد شخصية عرفات، وفاجأ الجميع ببطولة ذلك العمل الدرامي المتميز الذي أدى كل ممثل فيه دوره باتقانٍ شديد؟
عرفات في “جزيرة غمام” هو رمز الخير الذي يواجه الشر بمختلف أشكاله ودرجاته طوال حلقات المسلسل، ويبدو أن المشاهد قد اشتاق لرؤية تلك النوعية من الشخصيات التي كانت الأعمال الدرامية لا تتوقف عن إبرازها على الشاشة بكل مراحلها الإنسانية ومعاناتها النفسية وظروفها الاجتماعية المختلفة، بل يبدو إن الكثيرين قد سئموا من تكرار تجسيد شخصية البلطجي واللص وتاجر المخدرات والمرتشي والمزور وزعيم العصابة ورجل الأعمال صاحب الثروة والنفوذ الذي يرتكب كل الموبقات، فأصبح هناك حنين ما لرؤية البطل الطيب بل والمثالي أحيانًا كنموذج صالح يُقتَدى به بعد الانهيار العام لمنظومة القيم في ظل العولمة والمادية الدنيوية المفرطة التي تسود الحياة الآن.
لقد نجح الكاتب والسيناريست المهم والمؤثر دراميًّا ومجتمعيًّا أسامة أنور عكاشة على مدار عقود مضت في صنع قائمة طويلة من الشخصيات الدرامية المؤثرة في المجتمع بكل ما كانت تحمله من قيم سامية ومعانٍ نبيلة، فاستطاع أن ينسج بقلمه أعمالا خالدة وذات قيمة بسبب ما كانت تتمتع به من رقي ومن إجادة. واليوم نحن في أمس الحاجة لمثل تلك النوعية من الأعمال الدرامية خاصة بعدما أصبحنا في مجتمع يتسم بالأنانية المفرطة، وتغليب المصلحة الشخصية على المنفعة العامة، والانصراف عن الالتفاف حول أية قضية مصيرية هامة، بالإضافة إلى عدم الاكتراث بالمنظومة الأخلاقية أو بالفضيلة في ظل تزايد معدلات الإفقار والتجويع مع التشويه المتعمد للجماليات والروحانيات، والإحباط المعنوي بسبب تفاقم الضغوط الحياتية وصعوبة الظروف المعيشية، وفقدان الأمل في التغيير، والتجاهل المتعمد لتحرير العقول، وعدم العمل على خلق أجيال تفكر بحرية. وللأسف نتج عن ذلك كله اليأس والاستسلام للتدني الاجتماعي والأخلاقي والفكري والوجداني والروحاني، والتفريط في الطموح والتخلي عن الغايات، أو الانكباب بشراهة على جمع الأموال والثروات بأي شكل وبكل طريقة، والانخراط غير الواعي في سباق الرفاهية المادية والتضحية في سبيل ذلك بأهم ما يميز الإنسان وهو نقاء روحه وسلامة قلبه ويقظة ضميره.
ولأن صياغة شخصية طيبة وعفوية ونقية، تتسم بالطيبة وليس بالسذاجة أو بالبلاهة، هو بالفعل أمر صعب، فربما كان من الأفضل أن تكون تلك الشخصية قد عاشت في زمان غير زماننا هذا، وفي مكان مختلف لا يعيش فيه الكثيرون من الناس. وتلك البداية الموفقة لخلق مُناخ ملائم لذلك العمل الدرامي، قد جذبت بالفعل المشاهد كي يرى شيئًا مختلفًا، وصورة مختلفة، وطبيعة حياة مختلفة، وعالمًا مختلفًا، ولكن كل ذلك الاختلاف لم يغير من طبيعة الصراع الذي يطرحه المسلسل بين الخير والشر، أو بين الحق والباطل، أو بين إقامة العدل واستباحة الظلم.
وقطعًا من له ذلك القلب الطيب سيحب الجميع حتى أولئك الذين خذلوه أو تخلوا عنه أو كانوا يريدون إيذاءه على مدار أحداث المسلسل؛ لذلك كان قلب عرفات ظاهرًا على وجهه، خاصة وهو في صحبة الأطفال أصحاب القلوب النقية الطاهرة، هذا بالإضافة إلى إجادته في التعبير عن حبه لنوارة أو العايقة بنظرة عين نجح من خلالها في إظهار عاطفته الوجدانية، وليس إظهار شهوته الحسية أو الجنسية التي تمكن من التعبير عنها الفنان محمود البزاوي الذي جسّد شخصية بطلان، وهو الشخص صاحب النفوذ والشره لجمع المال والمتطلع للرئاسة والسلطة مهما كان الثمن. وهنا تفوّق أمين في التعبير عن مشاعره، كي يرد على من يتحججون من صناع المشاهد الساخنة بأن التعبير عن العاطفة لابد أن يرتبط بالإباحية والعُري والابتذال وعدم الاحتشام، بينما العاطفة الحقيقية لا تحتاج بالضرورة في التعبير عنها إلى أحضان أو قبلات بقدر ما تحتاج إلى نظرة عين من ممثل محترف تعبر عن الحب.
لذلك في عيد ميلاد أحمد أمين الذي يوافق يوم 11 يوليو يجب علينا أن نهنئ أنفسنا والعالم العربي بمولد ممثل مصري وعربي متميز وعلى درجة من الوعي والثقافة والموهبة، تؤهله حال نجاحه في حسن إدارة ملكاته وتنميتها؛ أن يكون فنانًا مبدعًا ومتميزًا خلال السنوات القادمة. ويكفي متابعة مشهد المناظرة الذي ضم مع أمين معظم أبطال العمل وهم يتبادلون حوارا شيقا يطرح أكثر من قضية شائكة – كي نتأكد أننا أمام فنان متميز بدأ طريقه نحو الإبداع الذي هو أهم وأبقى من أية نجومية؛ فالنجومية قد يزول بريقها مع الأيام ولكن قيمة المبدع، وقيمة العمل الإبداعي تزداد بمرور الأيام، وبالرغم من ذلك يلهث الكثيرون وراء النجومية المؤقتة بينما يبحث القليلون عن القيمة وعن الخلود.
فكل عام ومصر قادرة على إنجاب مبدعين جدد وعلى إنتاج الأعمال الإبداعية الخالدة.