رؤى

إشكاليات “التعاون عبر الحدود”.. بين ليبيا والساحل

اختتمت في تونس، الأربعاء 23 نوفمبر، أعمال مؤتمر “التعاون عبر الحدود” بين ليبيا ودول الساحل الأفريقي، الذي جاء بمبادرة من الممثلة الخاصة للاتحاد الأوروبي في دول الساحل، وبعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة في إدارة الحدود في ليبيا  “EUBAM Libya”حيث أصدر المشاركون في المؤتمر، بيانا أوكّد فيه على “أهمية اتباع نهج إقليمي لدعم وتعزيز أمن وإدارة الحدود”.

وشدد البيان على أن “التعاون الحدودي يُشكل وسيلة ضرورية لحماية الحدود، وشرط أساسي لإنجاح أي استراتيجية لمجابهة التحديات، المعقدة والعابرة للحدود بين  الدول، وعلى رأسها الجرائم العابرة للحدود، والإرهاب، والجريمة المنظمة”.

دوافع أوروبية

يُعد تطوير البعد الإقليمي، وتعزيز  الحوار و”التعاون عبر الحدود” بين ليبيا ودول الساحل، أحد الأهداف الرئيسة للاتحاد الأوروبي، الذي يعتزم مواجهة مشكلة الأمن المعقدة في المنطقة، والتي تمر من الصحراء إلى شمال أفريقيا، مع تأثيرات مباشرة على منطقة البحر المتوسط وأوروبا.

ولعل ذلك يأتي ضمن دوافع الاتحاد الأوروبي لعقد مؤتمر دولي حول التعاون عبر الحدود بين ليبيا والساحل، بمبادرة من الممثلة الخاصة للاتحاد الأوروبي في دول الساحل إيمانويلا ديل ري، بالتعاون مع بعثة الاتحاد الأوروبي حول المساعدة والأمن على الحدود الليبية بقيادة ناتالينا تشيا، وخلية الاستشارات والتنسيق الإقليمية (Racc)، وبرنامج مكافحة الإرهاب (CT-Just).

ضمن دوافع الاتحاد الأوروبي أيضا لعقد مثل هذا المؤتمر الدولي.. تأتي الدوافع التالية:

أولا: الأولويات الاستراتيجية الأوروبية في تأمين الحدود؛ حيث تتمثل الأولويات الاستراتيجية الجديدة للاتحاد الأوروبي، بالنسبة إلى منطقة الساحل الأفريقي، في ضرورة وجود نهج أكثر شمولية لمواجهة عدم الاستقرار الإقليمي، الذي تتسبب به عوامل كثيرة لاسيما الإرهاب.. ورغم أن التركيز الجغرافي الرئيس ينصب على دول الساحل الخمس (تشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو وموريتانيا) إلا أن الاستراتيجية التي تتبعها الممثلة الخاصة للاتحاد الأوروبي في المنطقة، ديل ري، تركز على سياق إقليمي أوسع يشمل ليبيا.

ولعل ذلك ما دفع موسى الكموني، النائب بالمجلس الرئاسي الليبي، والذي ترأس مؤتمر “التعاون عبر الحدود” إلى التأكيد في كلمته الافتتاحية على أن “دول الساحل تحتاج اقتصاديا للمساعدات، حتى تستطيع تأمين حدودها الشاسعة، حيث إن السيطرة عليها شبه مستحيلة”.

ولم يكتفِ الكموني بذلك، ولكنه أضاف “إن دول الساحل أحوج ما تكون لمساعدة الاتحاد الأوروبي، بأن يمدها بالتكنولوجيا لمراقبة حدود ليبيا الجنوبية، التي لا يمكن تأمينها بسهولة لأنها مترامية الأطراف”.

ثانيا: التأكيد على مكافحة الجرائم العابرة للحدود؛ إذ إضافة إلى مسألة تأمين الحدود، تهدف الاستراتيجية الجديدة للاتحاد الأوروبي إلى تعزيز الاستجابات على المستوى الإقليمي والوطني والمحلي؛ ومن ثم جاء المؤتمر كفرصة لتسهيل السُبل الممكنة للتعاون الفني بين حكومات ليبيا وحكومات دول الساحل الخمس، وذلك في مجال إدارة وأمن الحدود، وفقا لموقع “ديكود 39” الإيطالي؛ الذي ذكر أيضا أن الاتفاق الرباعي، في عام 2018، لمكافحة الإرهاب والإتجار غير المشروع وتهريب البشر، الذي وقعته ليبيا وتشاد والنيجر (والسودان) يُعد مثالا على هذا الإطار العملي.

ثالثا: أهمية مواجهة الإرهاب وتهريب البشر؛ فمن خلال بعثته للمساعدة الحدودية ” EUBAM Libya”، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى المساعدة في تأمين الحدود الليبية، والتصدي للجرائم التي تعبر منها إلى داخل ليبيا، أو إلى دول الجوار بما في ذلك الدول الأوروبية شمال المتوسط. واللافت هو إشارة رئيسة بعثة “EUBAM” ناتالينا تشيا، إلى أن المؤتمر يهدف إلى دعم الأمن والاستقرار الإقليميين، من خلال “تعزيز التعاون عبر الحدود في مكافحة الجرائم الحدودية، خصوصا الإرهاب وشبكات الإتجار بالبشر”.

وأبانت تشيا أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى تعزيز التعاون عبر الحدود، حيث “يُشكل هذا التعاون مصلحة استراتيجية لجميع الأطراف”.

إشكاليات هيكلية

تشكل منطقة الساحل الأفريقي معضلة أمنية تكاد تستعصي على المقاربات الأمنية المعتادة، إلى الدرجة التي يمكن معها وصف المنطقة بأنها بمثابة مُركَّب أمني بالغ التعقيد والتشابك. وقد أضاف انهيار الدولة في ليبيا منذ عام 2011، إشكاليات أخرى إلى الإشكاليات التي تتسبب بها منطقة الساحل.

وهكذا فإن ثمة إشكاليات هيكلية تُمثل معوقات أمام المقاربة التي يحاولها الاتحاد الأوروبي من أجل “التعاون عبر الحدود” بين ليبيا والساحل.. لعل أهمها ما يلي:

من جهة، تبدو التحديات الاقتصادية وهشاشة الوضعية الاجتماعية؛ إذ تواجه مجتمعات الساحل الأفريقي مجموعة مترابطة من التحديات الاقتصادية، مع الأزمات المتكررة والضغوط المتزايدة على الأراضي والموارد والتوظيف، ما يجعل هذه الدول من بين أكثر الدول ضعفا في العالم. وتُعد المناطق التي استطاعت الجماعات المتطرفة، التي تمارس العنف المسلح، التغلغل فيها، من بين أكثر المناطق تهميشا ومعاناة من حيث الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

وفضلا عن التدهور البيئي وتغير المناخ، الذي أضاف طبقة من الضعف إلى بيئة اقتصادية هشة بالفعل؛ فإن المنطقة تعاني من غياب مفاهيم الحكم الرشيد والتنمية المستدامة. فعادة ما تركز النخبة السياسية على ديناميات القوة في العاصمة، أكثر من التركيز على التنمية على المستوى الوطني. لذلك لم يكن من الغريب أن تتراجع تشاد والنيجر ومالي كأمثلة لسنوات عديدة، إلى ذيل دليل التنمية البشرية للأمم المتحدة، الذي يقيس المؤشرات الأساسية، مثل: الصحة والتعليم ومستوى المعيشة.

من جهة أخرى، تتسم المنطقة بانتشار الجماعات المسلحة والميليشيات العرقية؛ التي تشمل حركات التمرد والميليشيات العرقية وشبكات الجريمة المنظمة وجماعات تهريب البشر؛ وفوق ذلك.. جماعات التطرف والإرهاب.

والملاحظ أن الخطوط بين هذه المجموعات لا تكون واضحة تماما؛ حيث تظهر التحالفات وتتفكك اعتمادا على طبيعة المصالح والشخصيات، والسياق السياسي والأوسع.

وتشهد منطقة الساحل أيضا العديد من الجماعات المسلحة التي تشكلت حول الهويات العرقية والعشائرية والطبقية، أو حول أجندات سياسية وطنية أوسع.

من جهة أخيرة، التنافس الدولي وتباين المقاربات الأمنية؛ فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي أول جهة خارجية أطلقت مبادرة أمنية إقليمية، في نهاية 2002؛ حيث أطلقت عليها اسم مبادرة “عموم الساحل” بهدف “حماية الحدود، وتتبع حركة الأشخاص، ومكافحة الإرهاب”. وفي عام 2005، أطلقت الولايات المتحدة مبادرة “مكافحة الإرهاب عبر الصحراء” (التي أُعيد تسميتها في ما بعد بـ”الشراكة عبر الصحراء لمكافحة الإرهاب”) بهدف تعزيز حوكمة الأمن الإقليمي، وتوسيع النطاق الجغرافي لمبادرة الأمن الدولية، وتوسيع عضويتها لتشمل دولا، عربية وأفريقية، من خارج دول الساحل.

إلا أن الاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة تختلف عن المقاربات الأوروبية والفرنسية مثلا؛ ما أنتج تنافساً في المنظورات الأمنية الدولية تجاه المنطقة، مع الاختلاف الحاصل، في الوقت نفسه، بين التفاعلات الإقليمية. ففي الوقت الذي ترفض فيه الجزائر، كمثال، المقاربة الأمريكية بإنشاء القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، فإن هناك ترحيبا من دول أفريقية أخرى، تعتبر نفسها شريكاً للولايات المتحدة.

تدافعات دولية

في هذا السياق، يمكن القول بأن منطقة الساحل الأفريقي قد أضحت ميدانا لتدافع القوى الدولية، والإقليمية أيضا، بأجنداتها المختلفة التي ربما تتعارض مع مفاهيم الأمن الخاصة بدول الجوار الجغرافي العربية للمنطقة، خصوصا بعد انهيار الدولة في ليبيا طوال ما يزيد على عقد من الزمان.

أضف إلى ذلك، أن عدم التوافق في رؤى العديد من دول المنطقة حول كيفية التعامل مع القضايا الأمنية واستراتيجيات مقاربتها، كان من العوامل في تحول المنطقة إلى ما يشبه “القنبلة الموقوتة”؛ الأمر الذي جلب تنافسا كبيرا بين القوى الدولية الكبرى في المنطقة؛ وهو الأمر الذي يدفع إلى التفكير في كيفية إحياء التعاون بين دول الساحل وبين الدول العربية، في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، باعتبار أن أمن الساحل هو امتداد للأمن العربي عموما.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock