مختارات

أربعة قرون من هيمنة الغرب 2 من 2

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن عمان

حسين عبد الغني

 

 

 

النظام الدولي الجديد متعدد أو ثنائي القطبية اكتمل جنينا ولكنه يواجه مخاضا عسيرا، ولهذا فإن السؤال لا يتعلق بما إذا كان سيحل محل النظام القديم أحادي القطبية الأمريكي أم لا؟ فهذا مفروغ منه منذ تحول الثقل الاقتصادي الجيوستراتيجي من الغرب إلى قارة آسيا في العقود الثلاثة الأخيرة، ولكن السؤال يتعلق بالوقت الذي تستغرقه هذه الولادة، وهل يحتاج سنوات أم عقودا وهي ولادة عسيرة تمت الإشارة إلى أنها ستستغرق وقتا وستكلف البشرية معاناة وصراعات مؤلمة أكثر من “ولادات سابقة” للنظام الدولي.

تمت الإشارة في المقال السابق إلى آليات الهيمنة الغربية على العالم المستمرة منذ أربعة قرون التي طورتها الإمبراطورية الأمريكية التي ورثت القوى الاستعمارية الأوروبية القديمة تطويرا ماهرا وماكرا غير مسبوق في تاريخ الإمبراطوريات التي حكمت العالم على مدار التاريخ.

فقد تمت هندسة كيانات الدول، وفي هذه الهندسة زرعت مئات الصراعات الحدودية بين الجيران وتمت هندسة هذه الدول من الداخل صراعات إثنية وطائفية ومذهبية وقبلية قابلة للتلاعب بها وتفجيرها في أي لحظة.

الأخطر من ذلك كانت آليات الهيمنة الاقتصادية التي ربطت اقتصاديات الدول بعجلة الاقتصاد الأمريكي وعملته الدولارية وخضعت لتوجيهات مؤسساته. [مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.. الخ] التي تمت هيكلتها لتضمن بقاء هذه الهيمنة بربط هذه الدول بأغلال ديون ثقيلة وسياسات غير شعبية وغير عادلة غالبا ما تقود إلى احتجاجات تهدد الاستقرار السياسي.

صندوق النقد الدولي
صندوق النقد الدولي

العالم العربي هو واحد من أخطر الأمثلة على هذه الهيمنة فرغم أنه حظي بأهم ثروة تحتاجها الصناعة والطاقة في العالم {النفط والغاز} فقد تم تصميم نظام البترودولار بحيث تذهب أغلب فوائده لواشنطن وتبقى المنطقة مجرد مورد للمواد الخام وسوق واسعة للمنتجات المصنعة أما ما يتبقى من فوائض يوظف معظمه في أدوات وسندات الدين الأمريكية والغربية أو استثمارات مباشرة في بلاد الغرب.

لكن إضافة إلى آليات الهيمنة وشراسة النظام القديم الذي تمثله أمريكا في الإبقاء على هيمنته، هناك عوامل أخرى تتعلق بالقوى الصاعدة وعلى رأسها الصين التي يفترض أن تحارب بشراسة من أجل دفع مخاض الولادة بأقصى قوتها ولكنها في هذه المرحلة لا تفعل ذلك لحسابات معقدة وصحيحة في الغالب مما يساعد في تأخير استلام العالم مولوده الذي سيصبح قائده في المستقبل.

مثلان ساطعان على ما يمكن وصفه عدم تعجل القوى الصاعدة على دفع ما تبقي من جسم النظام الجديد من رحم العالم إلى نور الحياة شاهدناها مؤخرا هما:

-ضبط النفس الذي مارسه الرئيس شي بينغ في مواجهة الاستفزاز الأمريكي في تايوان وتفويت الفرصة على مواجهة عسكرية مباشرة.

– التباطؤ العسكري الروسي المتعمد حاليا بتوجيه من الرئيس بوتين { بعد النجاحات الروسية في إقليم دونباس } وترك حتى زمام المبادأة مع زيلينسكي في جبهة الحرب الأوكرانية أيضا لعدم الوقوع في فخ استنزاف شامل للاقتصاد والجيش الروسي الذي ترمي إليه واشنطن.

بوتين
بوتين

لكن الزمن يعمل لصالح القوى الصاعدة عندما يتعلق الأمر بتكتيك الصبر والانتظار حتى يكتمل توازن القوى الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إذ تتزايد قوة الصين وروسيا والهند وغيرها بينما تتراجع قوة أمريكا وأوروبا تدريجيا في هذه المجالات.

المشكلة الحقيقية التي تواجه هذه القوى الصاعدة أنها عجزت حتى الآن عن بلورة نموذج ” حضاري ” مقنع يحل محل النموذج الحضاري الغربي المهيمن ” ثقافيا ” على العالم خاصة على أجياله الجديدة.

صحيح أن النموذج الغربي بدأ في التحلل والانهزام خاصة مع اتضاح أنه ما زال في جوهره ورغم كل الشعارات نظاما عنصريا كما أثبتت الحركة العالمية {Black Live Matters} وأنه نظام قائم على الظلم والانحياز لاحتلال وإنكار القانون الدولي الذي اخترعه هو بنفسه كما أثبتت حركة مقاطعة إسرائيل BDS، وأيضا مع تماديه لدرجة التطرف في تشجيع مجتمع {LGBT} وإضعاف فكرة الأسرة كوحدة أساسية للمجتمعات الإنسانية وضمانة استمرار العمران البشري.. ولكن ما زال هذا النموذج بقوائمه الصحيحة وهما الديمقراطية وحقوق الإنسان نموذجا عالميا للقيم جذابا ومرغوبا خاصة مع هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على معظم التفاعل الإنساني في السنوات الأخيرة.

وإذا كانت الفلسفة “الأوراسية” الجديدة لبوتين ومنظره دوبين تلتقي مع الثقافة الصينية التقليدية الكونفوشيوسية في حماية الأسرة ورفض التحلل الأخلاقي في مواجهة ارتفاع أعلام المثلية والإجهاض في الغرب إلا أن ذلك لا يكفي في حد ذاته لخلق نموذج ثقافي شامل ومقنع لباقي البشرية.

احتجاجات حياة السود مهمة
احتجاجات حياة السود مهمة

فما لم يقرن مثلا النموذج الاقتصادي الصيني نفسه بنجاح مماثل في خلق نموذج حضاري يتضمن جوهرا حقيقيا لشكل من أشكال الديمقراطية وتناوب السلطة ليس بالضرورة على النمط الغربي ولكنه قادر بشكل مبتكر على تمثيل فئات المجتمع وضمان حرية الرأي والتعبير فإن كل القوة الاقتصادية والتكنولوجية التي تحوزها بكين عن جدارة لن تكون كافية لكي تصبح الصين شريكا على نفس قدم المساواة مع أمريكا في قيادة النظام العالمي الجديد.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبدو من الناحية الفكرية متنبها إلى أهمية هذا النموذج، ولذا يلح باستمرار على نظام للقيم يقوم على الدين { الكنيسة الأرثوذكسية } في الحالة الروسية وعلى الأسرة كوحدة اجتماعية بموقف بالغ التشدد من مجتمع LGBT. كما دعا مؤخرا النخبة الروسية بوضوح تام إلى تطوير التعليم والتكنولوجيا دعامتين لروسيا كشرط لازم للتقدم لدور قيادي في العالم. كما يطور نموذجا حضاريا قائما جيوسياسيا على خبرة ألف سنة للأمة الروسية في أوراسيا كأكبر بلد من حيث اليابسة أو ثقافيا بما أضافه أدباؤها وشعراؤها وموسيقيوها وعلماؤها العظام إلى الحضارة البشرية. ولكن المحاولات الصينية والروسية تظل حتى الآن محدودة وبعيدة نسبيا عن صنع نموذج ثقافي وقيمي عالمي يستبدل النموذج الغربي المهيمن بنموذج آخر.

وبالنسبة للنموذج المطلوب من الصين وروسيا يستحسن أيضا ألا يكون نموذجا حضاريا مهيمنا وفارضا نفسه على كل الثقافات مثل النموذج الغربي ـ وهذا أفضل وأكثر عدلا واستيعابا لفكرة التنوع والتغاير الثقافي للشعوب – لكن يكون في نفس الوقت مشعا وجذابا قادرا على إلهام حضارات أخرى كالحضارة العربية الإسلامية والحضارة الهندية.. الخ بإعادة اكتشاف نماذجها الحضارية بالتوافق مع النموذج الجديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock