رؤى

خالد بن سعيد.. خامس الإسلام المُبَشّر بالرؤيا!

وهذا رجل لم يسبقه إلى الإسلام سوى علي وأبي بكر وزيد بن حارثة وسعد بن أبي وقاس.. وهو من أصحاب الهجرتين، وممن شهدوا المشاهد مع رسول الله حتى وفاته، بدءً من عمرة القضاء.. كما كتب الله له الشهادة يوم أجنادين، وقيل أن شهادته كانت في معركة مرج الصُّفر.

فلماذا خفت ذكره في تاريخ الإسلام وهو من السابقين الأولين ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه وله من المناقب ما ليس لغيره؟!

إن إسلام خالد واتباعه النبي الخاتم -صلوات ربي وسلامه علي- لم يكن عن باعث عقلي أو اجتماعي، مما يكثر ذكره في قصص إسلام الصحابة؛ فلقد كان باعث إسلام خالد – رؤيا منامية ربانية، إذ رأى نفسه على شفير نار عظيمة؛ يكاد أن يقع فيها يدفعه إليها بكلتا يديه أبوه سعيد بن العاص؛ لكن محمد بن عبد الله الذي يعرفه ويُجلّه يأتي فيحجزه عنها.. فيصحو مقسما إنها لرؤيا حق؛ فيقوم من فوره إلى أبي بكر ويسأله عن أمر صاحبه، بعد أن قص عليه رؤياه؛ فًيُعْلِمْه الصديق أن الله قد ابتعث الصادق الامين رسولا لهذه الأمة، فيذهب خالد إلى الرسول سائلا: يا محمد إلام تدعو؟ فيجيبه المعصوم: أدعو إلى الله وحده، لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع.. فأسلم خالد.

لم تكن هذه هي رؤيا ابن سعيد الأولى، فقد رأى قبيل البعثةـ مكة وقد غشيتها ظلمة حالكة لا يبصر المرء فيها كفه، فبينما هو كذلك إذ خرج نور من زمزم، ثم علا في السماء فأضاء في البيت، ثم أصاب مكة كلها، ثم تحول إلى يثرب فأصابها.. يقول خالد: حتى أني لأنظر إلى البُسر في النخل، فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي، فقال: يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبد المطلب ألا ترى أنه خرج من حَفر أبيهم يقصد البئر. فلما قصّ خالد تلك الرؤيا على الرسول بعد ذلك قال له: يا خالد أنا والله ذلك النور، وأنا رسول الله.

وكان والده سعيد بن العاص من كبار قريش، له من الهيبة والمكانة، حتى قيل أنه كان إذا اعتم بعمامة لم يعتم بها أحد سواه تعظيما له، وكان رجلا شديد الاعتزاز بقومه؛ آلمه أشد الألم إسلام خالد واتباعه محمدا، فبالغ في إيذائه وحبسه وعذبه ومنعه الطعام والشراب؛ فلم يرجع عن دينه فخرج به في بطحاء مكة في الهجير الحارق لثلاثة أيام متوالية دون شربة ماء؛ فما رد ذلك خالدا عن دينه؛ حتى أيس منه سعيد وطرده.. ومما ذكر أن سعيدا مرض بعد إسلام ابنه عمرو وكان شديد الحب له، فقال: إن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة -يقصد محمدا- بمكة أبدا، فقال خالد: اللهم لا ترفعه، فتوفي في مرضه ذلك.

ثم كانت هجرته رضي الله عنه إلى الحبشة، وهناك رزق بابنته الوحيدة أمة، التي كنيت بأم خالد، وهناك أيضا اختارته أم حبيبة بنت أبي سفيان ليكون وكيلها في زواجها من الرسول، وكان خالد من أبناء عمومتها.

في المدينة اختار الرسول خالدا ليكون كاتبه؛ فكتب خالد الرسائل  للملوك والأمراء والقبائل، وهو أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم، وكتب العهد بين النبي ويهود المدينة، كما كتب رد النبي لمسيلمة الكذاب.

ومما يروى عن كرامة الرجل ومنزلته من نبي الأمة أن خاتم الرسول الأعظم، كان لخالدٍ في الاصل؛ فلما رآه النبي-صلوات ربي وسلامه عليه- سأله عن نقشه؛ فأخبره خالد أن نقشه “محمد رسول الله” وأسرع بخلعه ثم دفعه للرسول، فوضعه صلى الله عليه وسلم، في إصبعه الشريف.. وتوارثه من بعده أبو بكر وعمر وعثمان إلا أن الأخير فقده في البئر.

قبل التحاق الحبيب محمد بالرفيق الأعلى ولّى خالدا خراج اليمن؛ لكنه استعفى من المنصب وعاد إلى المدينة فور سماعه خبر وفاة الرسول.

لم يبايع خالد بن سعيد، أبا بكر بادئ الأمر- بايعه بعد ذلك بنحوٍ من ثلاثة أشهر بعد استشارة علي- إذ كان يرى أن رجلا من آل محمد مثل العباس أو علي بن أبي طالب أولى، وذُكر أنه قال لعلي وعثمان: “أَرَضِيتُمْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْ يَلِيَ هَذَا الأَمْرَ عَلَيْكُمْ غَيْرُكُمْ؟” وقيل أن حديثه بلغ أبا بكر وعمر، فعفا أبو بكر وحملها عليه عمر، فعندما عقد له أبو بكر لواء قيادة أحد جيوش الشام، لم يزل عمر به مُلحا حتى يرجع عن قراره قبل أن تتحرك القوات من المدينة، ورضخ أبو بكر في النهاية.. ولما بلغ النبأ خالدا، قال: “والله ما سرتنا ولايتكم، ولا ساءنا عزلكم”.

وأسرع أبو بكر إلى دار خالد معتذرا له، تاركا له أمر اختيار القائد الذي يخرج معه فاختار خالد، شُرحبيل بن حسنة الذي  دعاه أبو بكر وقال له: “انظر خالد بن سعيد، فاعرف له من الحق عليك، مثل ما كنت تحب أن يعرف من الحق لك، لو كنت مكانه، وكان مكانك، إنك لتعرف مكانته في الإسلام، وتعلم أن رسول الله توفي وهو له وال. ولقد كنت وليته ثم رأيت غير ذلك، وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه، فما أغبط أحدا بالإمارة، وقد خيّرته في أمراء الجند فاختارك على ابن عمه- يقصد عمرا بن العاص-، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به: أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وليكُ خالد بن سعيد ثالثا، فإنك واجد عندهم نصحا وخيرا، وإياك واستبداد الرأي دونهم، أو إخفاءه عنهم”.

ثم كان استشهاده رضي الله عنه يوم أجنادين قبل وفاة الصديق بأربع وعشرين ليلة، وقيل في معركة مرج الصُفر في صدر خلافة عمر.. ومما روي أن قاتله أسلم بعد ذلك وشهد أنه رأى لحظة استشهاد خالد، نورا ساطعا في السماء.

رضي الله عن خالد بن سعيد المؤيد بالرؤى الربانية، صاحب الهجرتين، المجاهد في سبيل الله، الزاهد في الإمارة والقيادة وكل حطام الدنيا، الشهيد البطل صاحب النور الساطع.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock