عرض نادي جزويت القاهرة مساء السبت الثالث من سبتمبر الجاري، الفيلم النرويجي The Worst person in the world والذي فاز بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي العام الماضي والتي حصلت عليها ريناتا راينسفي عن دورها المتميز في العمل.
الفيلم من إخراج خواكيم ترايير، وبطولة ريناتي رينسف، وآندرس دانييلسن لاي، وهو يأتي في ظل سلسلة أفلام برع فيها المخرج خواكيم ترايير، في أن يُضفي بصمة خاصة من خلال تقديم أشخاص يبحر في أعماق كل منهم؛ محاولا أن يقدم للمشاهد أدق تفاصيل حياتهم، بما يساعده على أن يلمس بنفسه على الشاشة، كيف تصارع الإنسانَ الحياةُ فتغلبه حينا وينتصر عليها في أحيان أخرى في سجال لا يهدأ.
الجرأة الإخراجية التي يشتبك بها خواكيم ترايير مع الواقع وقضاياه بالغة التعقيد؛ كانت سببا في ترشيحه لجائزتي أوسكار، وفوز واحدة من بطلاته بجائزة مهرجان كان السينمائي العام الماضي.
الارتباك هو سيد الموقف، والإنسان يبقى حائرا دائما وأبدا، في رحلة لا تنتهي من أجل البحث عن شيء من الراحة النفسية، هذه هي الرسالة التي تصلنا سريعا مع المشاهد الأولي من فيلم The Worst person in the world حيث نجد “جولي” الفتاة العشرينية، وهى تعاني في البحث عن طعم آخر للحياة، بعيدا عن المرارة التي تشعر بها صباحا مساء، حيث يعصف بها القلق والارتباك.
طالبة واعدة في مقتبل العمر تدرس في كلية الطب؛ هكذا تبدو الصورة من الخارج أما “جولي” في أعماقها؛ فإنها تشعر برغبة جارفة في تغيير مسار حياتها بشكل كامل؛ بحثا عن راحة تفتقدها؛ فتقرر سريعا أن تنتقل إلى دراسة علم النفس، في إشارة إلى أن سر شقاء الإنسان؛ حتى في أكثر مجتمعات العالم تقدما؛ يعود إلى عدم معرفته بحقيقة نفسه التي بين جنبيه، وأن المنع أحيانا ربما يكون أفضل كثيرا من المنح.
لا تهدأ صراعات النفس سريعا ومرة أخرى تقرر “جولي” أن تقلب حياتها رأسا على عقب لتنتقل من علم النفس إلى دراسة التصوير الفوتوغرافي؛ ليبقى الارتباك سيد الموقف في الكثير من تفاصيل حياة الفتاة التي تبحث عن غد أفضل ومكان تنعم فيه بالدفء تحت شمس لا تُرى إلا نادرا، إذ تتوارى عن الأعين في أوقات كثيرة من العام خلف الضباب والغيوم.
الحقيقة التي لا يعلمها صناع العمل أن “جولي” التي تخوض طول الوقت رحلة للبحث عن حياة أفضل على مقاسها – هي أفضل ألف مرة من الملايين في العالمين العربي والإفريقي فهي تبقى رغم كل شيء قادرة على الفعل والحركة؛ وليست مسلوبة الإرادة.. وأبسط دليل على هذا أنها استطاعت أن تبدل الكليات الجامعية التي تدرس بها بنفس السهولة التي تغير بها ثيابها، بينما لا تملك أخريات في هذا العالم التعيس فرصة في الالتحاق بالدراسة الجامعية من الأساس.
الرسالة الرئيسية التي يحملها الفيلم والتي نقلتها لنا “جولي” هي أن لكل منا ذاته الخاصة التي يجب أن يبذل كل ما في وسعه من أجل البحث عنها؛ لأنه إذا وجدها وجد كل شيء، وإذا فقدها فقد كل شيء، فالحياة يجب أن يكون لها دوما معنى أسمى علينا أن نشغل أنفسنا بالبحث عنه، بعيدا عن ظواهر وماديات الأشياء.
حائرة “جولي”.. هكذا أراد المخرج أن تبدو لنا في أغلب المشاهد، فهي حينا أكثر اهتماما بالتفكير العقلي من الجسد المادي، وفي مرحلة أخرى نراها أكثر ميلا إلى التصوير الذي اتجهت إلى دراسته قبل أن تتجه بعد هذا كله إلى العمل في بيع الكتب.
شغف بأحد الأشخاص أو فكرة ما يكون قويا في البداية، قبل أن يضعف تدريجيا شيئا فشيئا، لتتجه صوب البحث عن شيء آخر تفتقده من أعماقها ويسلبها لذة الحياة؛ رغم أنها تعيش داخل واحدة من أكثر بلدان العالم تقدما، ربما تكون هذه هي المشكلة؛ فكما أن هناك أمراضا جسدية تفتك بالبشر في أكثر مجتمعات العالم تخلفا، فإن هناك ضغوطا وصراعاتٍ نفسية عاصفة تشهدها الدول الأكثر تقدما، الجميع إذن يدفع الثمن في رحلة البحث عن الذات الضائعة، فوق ظهر هذا الكوكب الذي تتسع دائرة الصراعات فيه كل يوم، بعد أن أضحى السلام النفسي مستحيلا.
رغم كل هذا الشجن؛ فإن الفيلم لا يخلو من بعض المشاهد الكوميدية التي أراد المخرج من خلالها أن يخفف الجرعة الدرامية؛ حتى لا يصاب المشاهد بدرجة من الكآبة التي ربما تدفعه لعدم إكمال العمل حتى النهاية.