جسده شجرة منقرضة، وجهه قديم بأنف شهواني غامض، كلامه يشبه حفيف أجنحة الملائكة، أما عيناه فتبحثان عن الصدق الكاذب، بينما يداه مبللتان بالمصائب لا تحمل خيرا، ولا تأتيان ببشارة.. لسانه مزين بنبرات حقيقية لشخصيات هلامية عشوائية تعيش بيننا.
إنه الليلي الذي تلمع عيونه، وتمتد أنيابه، وتبرز أظافره لتشخب الدماء من عقولنا وقلوبنا. يعرف كيف يصنع من الليل امرأة ممتلئة بالرغبة.. ليقدمها لسيده، ومن النهار يجمع فتات تعبه كلقمة عيش يحملها لأبنائه على ظهره المحني منذ فجر التاريخ.
هكذا هو لطفي لبيب يبدو، كـ “رشة ملح” أو بقايا كوب شاي متقن الصنع، شاي مضبوط، يعدل المزاج ويجعلك تفتح اليوم، إنه القصير ضئيل الجسم كبير القيمة، الذي يستطيع بنظرة واحدة أن يقلب الأحداث، وبتعليق مقتضب يحدد مسار البطل، وربما يقلب “الترابيزة” على الجميع بسر يقوم بإفشائه. فالصمت هو كلامه، ذلك لأن عيونه تقول كل شيء.
ولقد استطاع لطفي لبيب أن يدون أساطيره على شاشتنا، ويزين رموزه في كنيسته الفنية المُعَلّقة في قلوبنا.. سنجده مصلوبا؛ ليقدم لنا المناطق الوعرة من الشخصية المصرية، وما أصابها من تهشم وهشاشة في السنوات الماضية.
شاهدته كثيرا في بيتنا وعلى خشبة المسرح وعلى الشاشة، لكن كل هؤلاء الماثلين في الذاكرة؛ يمكن لك أن تحذفهم لتشاهد حقيقته تلك التي نراها مبكرا، حين ظهر في مشهد واحد فقط في مسلسل “رحلة السيد أبو العلاء البشري”، في دور “وجدي عبد الباسط”، ذلك المواطن المكافح القادم من الخارج، حاملا شقى العمر، كان هادئا ومبتسما وهو يتحدث مع السيد “أبو العلاء” محمود مرسي، يخبره بتاريخه وكفاحه، لكن خلف هذا الهدوء وتلك الابتسامة كان يحجب قلبا مشتعلا بالخسارة العظيمة لجيل كامل هُزم في عقر داره باسم شركات توظيف الأموال أو الشركات التي مصت دماء المصريين، إنه المدرس الذي عاد ليضع شقى عمره في شقة، لكن العمارات تسقط وتضيع الشقة في لحظة؛ ليجد نفسه مضطرا لتنفيذ القانون العاجز، وإطلاق رصاصة في هدوء على “أبو العلاء البشري”، ليوقف مسيرته في تعديل مسار الإنسان في القرن العشرين.
ولأن شخصية المواطن “وجدي عبد الباسط” كانت المَعْبَر الذي فتح للطفي لبيب طاقات الإبداع، نجدها أصبحت شخصية مهشمة وهامشية، انظر لشخصيته بعد تدميرها وتطورها لتظهر لنا شخصية “زقزوق” خادم سيده “رمضان الخضري” المنتصر بالله في مسلسل “أرابيسك”، إنه “دلدول” حقيقي! انظر لملابسه ونظراته وسحب أنفاس الشيشة؛ كي تجعل الحجر يشتعل ويطقطق وهو ينظر لـ “حسن” صلاح السعدني الذي يفشي أحد الأسرار في جلسة أنس، إنه أول خائن يهزم “حسن أرابيسك” في عقر داره، بل أول لص للتاريخ وأول نابش للتراث، إنه المنصت للأسرار ببريق عيون ذئب بشري حقيقي، عيون “مفنجلة”، لا تترك كلمة أو إشارة إلا وتدخل جهازه العصبي لتحليلها وعصرها لتصب في مصلحته.
كان دور “زقزوق” حاد وجميل ومعبّر وحقيقي، يشعرك بأنك تستطيع أن تسمع سمومه وهو يصبها في أذاننا، تابع نبرة صوته لتلك الشخصية التي تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على أي فريسة.
لقد كانت شخصية “زقزوق” واقعة من “قعر القفة” ويريد أي قشة ليتعلق بها، هو الخادم والمنصت واللئيم، خادم سيده الأمين، وأول مشعل لفتيل الحرائق والأحداث، قادر على نقل النميمة وتغليفها بحيث تصبح أخبار عاجلة تطيح بالجميع.
بهذه العصارة الإنسانية الحقيقية ذهب لطفي لبيب للسينما لينقش حضوره الناعم والمقلق في فيلم “عفاريت الاسفلت”، في دور “صالح” ماسح الأحذية، الذي يعاني من حرمان جنسي رغم أن لقبه “بتاع النسوان”، لكن الحقيقة أن كل علاقته بهن أنه يحتفظ بقطعة قماش قطيفة ناعمة لتشعره بنعومة الحياة مع النساء اللاتي لن يستطيع الحصول على واحدة منهن أبدا، فلا يكون أمامه في الختام – لأن كل فارس قد فاز بمحبوبته- إلا أن يسحب “حلزونة” ماجد الكدواني ذلك الشاب المتخلف الذي يجد صعوبة في الكلام والحركة، والذي يسيل ريقه على فمه وملابسه – لعشته ليقضي معه الليلة، ولا ينسي “صالح” وهو يسحب “حلزونة” أن يُطل مستطلعا من فرجة الباب؛ خوفا من أن يراه أحد، وكأنه قد خرج من أحدي الحكايات الشعبية؛ ليودي هذا الدور العظيم.
ورغم خوفنا أو خجلنا من شخصية “صالح” “بتاع النسوان”، إلا أن لطفي لبيب استطاع أن يقوم بتغليفها بجلد جديد من صنع يديه، ليصبح شخصية الأب “تمّام” والد “نوسة” حلا شيحة في فيلم “اللمبي”.. وهي شخصية تعتبر المعبر الأساسي للانسحاق المصري أمام “غول الفقر”، فكل الشخصيات تتحايل على الفقر، لكن “تمّام” لا يعبأ بتقاليد أو تاريخ أو رجولة، إنه يستطيع أن يبيع الهواء في زجاجة، نراه جالسا يأمر ابنته بأن تأتي له بـ”بطظاية” أي قطعة فحم، أو يجلس في مقر عمله – عامل أسانسير–لا يتوانى –بمكنونة الداخلي– في تحويل أي لحظة لنقود، حتى لو كانت الصفقة لبيع ابنته.
هذه الضآلة والخسة التي يقدمها وهو منحني بنصف جسده للأمام؛ وكأنه سيقبل يديك.. كما كان يفعل كماسح أحذية يوشك أن يقبل الأقدام، دون أن يجعلك تكرهها أيضا لأنها حقيقية، فنحن في مواجهة الفقر الذي يظهر لنا شخصيات أخري لم نكن نصدق أنها بداخلنا.
لقد عبّر لطفي لبيب عن التهشم المبهج لشخصية “تمّام” الأب شبه العاطل، بصورة تشبه زئبق الترمومتر الذي يقيس به درجاتنا في الحياة، فلن يضره شيء، لأنه سيظل زئبق، فلن يصبح ذات يوم حيوي وضروري كالماء، أو نادر كالذهب، أو حتى ذو خصوصية كالنحاس والفضة.
إن شخصيات بكل هذا القبح والجمال لن تستطيع الشاشة أن تقدمها إلا من خلال أداء لطفي لبيب، لذا، ولأنه يريد أن يطور شخصيته، ولأنه يستطيع بموهبته أن يحرث أرض حياتنا بالمحاريث – أرض حياتنا التي تتكون من طبقات عميقة من الفقر والخداع والبراءة والتطور والنجاح؛ فيجب أن نقف طويلا أمام شخصية “راضي” سائق الميكروباص الفهلوي في فيلم “عسل أسود” إنه المرادف الحقيقي للشخصية المصرية الآن. بل هو الأسود الحقيقي لحياتنا دون عسل.
فشخصية راضي الهلامية، والتي لا نعرف لها أصلا أو فصلا.. لنراه كرجل وحيد بلا عنوان أو بيت، لكنه صنع من العاصمة بيته وشارعه، يعرف تفاصيلها.. تغمز له وتعشقه وتقدم له البهجة وأحيانا تنهره، فيخجل عندما يلقي علبة سجائر فارغة على أرضية فنادقها النظيفة.
تابع نظراته كسائق نصاب وفهلوي وهو يتابع “مصري” أحمد حلمي، إنه الاسود الحقيقي، لكنه لم يقدمه ببؤسه بل بخفه دمه، كان حقيقيا دون تجمل، الملابس والنظرات والتعبيرات والحركات وردود الأفعال. لدرجة تجعلك تحفظ كلماته وهو يرد على “مصري” بطل الفيلم، يقول له أرقام التليفون: “زيرو وانين”، أو يصرخ فيه غاضبًا: “ارحم أمي العيانة”. هكذا يستطيع أن يصل لقلوبنا. وينقش كلماته في ذاكرتنا.
لقد كانت شخصية “راضي” حقيقية، فنحن نراها يوميا في سائق “توك توك” مستغل أو قائد ميكروباص لئيم يضغط على أعصاب ركابه؛ حتى يفوز بقروش قليلة فلا مبادئ ولا شعور بالندم لديه، يفهم الحياة ويفهم التغير الذي طرأ على الشخصية المصرية، وإذا كان عنوان الفيلم “عسل اسود” فإن العسل الأسود هو “راضي” الذي استطاع أن ينقش ويظهر التحول الذي حدث للشخصية المصرية في الربع قرن الأخير. وأن يبرز السواد الحقيقي لنا دونا عن العسل، فمن خلاله شُرّح جسد المجتمع المصري وظهرت كل عيوبه وتحولاته السلوكية الكبيرة وسط باقة كبيرة من البهجة.
ولأن لطفي لبيب قادر على وضع كل شيء في مكانه الصحيح، رغم قصر الدور، فقد ذهب بهذا الانسحاق والابتزاز الدائم لمفردات وشخصيات الحياة، لترى عصارته في شخصية الجد “رجب” في فيلم “واحد صفر”.
هذا الجد ذو الفم الخالي من الاسنان، والذي يتطاير الرذاذ من فهمه، لكن عيونه وانبعاج وجهه يقولان كل شيء، إنه مسحوق ويكاد لا يرى، ويكون صوته هو حفيده وامتداده والذي يتحايل من أجل النصب على أحد المواطنين بالسقوط أمام سيارته مدعيا الإصابة.
لقد استطاع الفنان لطفي لبيب أن يرصد معاناة المصريين، والقهر الواقع عليهم من كافة الطبقات، بعدة مشاهد في هذا الفيلم، بل أنه يبرر أفعاله، ويزيد ذلك عندما يضغط على حفيده بأن يستمر مُدعيا الإصابة، من أجل الحصول على مزيد من المال.
المدهش أن كل الشخصيات السابقة، مدرس عائد من الخارج، خادم وضيع لسيده، ماسح أحذية مهووس، سائق ميكروباص استغلالي، عامل أسانسير… لم يكن أمامها إلا أن تفرز شخصية السفير الإسرائيلي الماكر المبتسم في فيلم “السفارة في العمارة”.
لقد استطاع لطفي لبيب في هذا الدور، بنظراته وتعبيرات وجهه، وابتسامته، أن يشمخ في عمق التاريخ الزائف ويقدم لنا تلك الشخصية الناعمة كثعبان حقيقي، لا يتضايق ولا ينفعل، هادئ مع جاره – عادل إمام – وهادئ وهو يقدم عرضه بشراء الشقة، وهادئ وهو يمارس – الفصال اليهودي الشهير- فلن تستطيع أن تضحك عليه، هو أفعي حقيقية تتمدد بثقل تراثي وعقائدي وتاريخي.
لطفي لبيب الذي لا يملك أي شيء، ومع ذلك يريد أن يدخل مزاد الحياة من أجل أن يصير تاجرا يبيع أصله وفصله وتاريخه وجسده وأبناءه وتراثه.
وإذا كانت الأفلام تصنع شهادات توثيقية للتاريخ، فإن لطفي لبيب استطاع أن يختم تلك الأفلام بختمه الأدائي والتمثيلي، ليصبح مرجعا للشخصية المصرية في الربع الأخير من القرن العشرين، والربع الأول من القرن الواحد والعشرين
استطاع لطفي لبيب تقديم هذه النماذج وغيرها؛ محللا شرائح المجتمع المصري على اختلافها دون صراخ أو حوارات زاعقة مباشرة، يرصد ببساطة حالة القهر والشعور بانعدام الكرامة لدى المواطن المصري أيًا كانت الفئة الاجتماعية التي ينتمي لها.
ولأنه يؤرخ بإدائه التمثيلي ما ظهر من تغيرات في الشخصية المصرية، فإنه لم ينس أن يدون أيامه خلال فترة تجنيده في الجيش.. من خلال كتابه “الكتيبة 26” الذي يرصد فيه فترة حرب أكتوبر التي عاشها من سبتمبر 1973: فبراير 1974، كأول كتيبة عبرت القناة.
سيظل أداء لطفي لبيب المولود في هجير صعيد مصر عام 1947، مميزا بنعومة أظافره وهو يخربش مشاعرنا، ذلك لأنه جاء عالم الفن من خلال الأدب حيث دراسته وقراءاته ووعيه، فقدم أدوارا سكنت قلوبنا وذاكرتنا، إذ ختمت بختم لطفي لبيب الخاص والمميز.