من أجمل وأبلغ العبارات التي ترددت أمامي.. كانت عبارة سمعتها في فيلم شاهدته أكثر من مرة بعنوان “الأسطورة 1900” للمخرج الإيطالي المبهر جوزيبى تورناتورى
تقول العبارة التي وردت في افتتاح الفيلم وعند نهايته: “إنك لا تنتهي، ولا ترحل طالما أن لديك قصةً جيدةً ولديك إنسانا ترويها له”.
قادتني هذه العبارة إلى تذكر أحد الشخصيات التي لم تمارس أي نوع من المبارحة لذاكرتي رغم مرور عشرات السنين على رحيلها الجسدي عن عالمي.
وبصدق –لست مضطرا للقسم تأكيدا له– لم أعرف -عن قرب- أحدا يمتلك طاقة بشرية جبارة تتحدى ظروف صاحبها، وتتفجر بالانتصار الإنساني قدر ما عرفته متمثلاً في عم عبده زغلولة.
عم عبده زغلوله أو عبد الجواد زغلول كما أتذكر اسمه في دفتر الحضور الرسمي.. كان رجلا نحيفا قصير القامة ضرب البياض إحدى عينيه؛ لذا كان إذا ما نظر أو تفحص شيء فإنه كان يزر عينه التي يرى بها ليرى بما يعوض عينه الأخرى التي يدور بؤبؤها ويرتجف دون رؤيا، وعلى ما يبدو أن هذا قد رسم على وجهه القمحي خطوط حادة من التجاعيد أعطته ملامح القسوة والصرامة، ومع ذلك كان يستطيع من آن لآخر أن يفرج عن ابتسامة تشعرك بطيبة راسخة وكامنة في هذا الرجل رغم ملامحه الظاهرة التي تذكرك بملامح أمراء حروب الأزمنة السحيقة.. والتي استغلها بعض أعيان إحدى القرى التي أرسله إليها بنك التسليف الزراعي؛ مشرفا تعاونيا لقبوه بـ “سفاح كرموز” واستخدموا هذا اللقب في عشرات الشكاوى التي أرسلوها إلى إدارة بنك التسليف الزراعي ووزارة الزراعة يطالبون فيها بنقله من هذه القرية.
طبعا لم تكن هذه الشكاوى خالصة لوجه الله والوطن أو من أجل دفع ضرر أصاب الناس من وراء قدوم هذا “العبده زغلولة” إلى القرية بجلبابه الذي كان يرتدى فوقه بالطو، وطاقيته الصوف التي تنسدل من تحتها على جبينه خصلة شعر المقدمة فتزيد هيئته جدية وحزما وتضفي عليه المزيد من علامات الصرامة لتزيد من مهابته لدى الجميع.
كانت هذه الشكاوى لأنه أوقف ما تمتع به بعض أصحاب المصالح، من أعيان هذه القرية الكبيرة، من محاباة وتسهيلات وانتقاء لأجود أنواع الأسمدة، على حساب المغلوبين على أمرهم من الفلاحين، الذين كانوا ينتظرون قبل قدوم عم عبده زغلولة؛ ليأخذوا مخلّفات فرز الكبار سواء من الأسمدة أو البذور أو التقاوي، فيحصلون على الأجولة المتهالكة أو أكياس الأسمدة التي نالت منها الرطوبة، أو ينتظرون لساعات طويلة، حتى يفرغ أصحاب المصالح ومحاسيب وأقارب المشرف التعاوني السابق، من أخذ حصصهم وما يفوقها قليلا أو كثيرا.. إلى أن قررت إدارة البنك نتيجة مخالفات ما في توزيع بذرة القطن في أحد المواسم الزراعية – تغيير طاقم البنك وإرسال عم عبده زغلوله وحده مؤقتا إلى جانب عمله في قريته الصغيرة بديلا عن هذا الطاقم المكون من المشرف التعاوني ومساعده.
ولمن لم يعاصر أو يعرف عن وظيفة المشرف التعاوني التي لم تعد موجودة الآن.. فهي تقريبا كانت أهم مركز وظيفي في القرية المصرية مع وظيفة المشرف الزراعي ووظيفة موظف الري وطبيب الوحدة الصحية.
في منتصف حقبة السبعينيات كانت الجمعية الزراعية لا تزال هي مركز إدارة الحياة الزراعية بالنسبة لأهل أي قرية مصرية، فالجمعية الزراعية كانت تضطلع بمهام وزارات الزراعة والحكم المحلي والتموين، وهيئات ووزارات ومؤسسات أخرى إذا ما اقتضت الظروف في أي قرية مصرية.. كانت هي من تدير عملية تقسيم الأحواض الزراعية؛ طبقا لخرائط وزارة الزراعة، ومن ثم تقوم بتحديد مشرف زراعي لكل حوض، ويرأس الجميع المشرف الزراعي، بالتنسيق مع مديرية الزراعة، ومن مكتب المشرف الزراعي تعلن كشوف الدورة الزراعية قبل كل موسم زراعي؛ لتحدد ما سوف يزرعه الفلاحون، ومن ثم تقوم الجمعية الزراعية بعمل كشوف البذور والتقاوي والسماد والمبيدات والعلاجات المختلفة، وترسلها إلى بنك التسليف الذى يقوم بدوره وعبر مشرفه التعاوني بتوزيعها، كذلك تدار من هذا المكتب داخل مبني الجمعية الزراعية، المعاينات التي تحدد نوع الاحتياجات الخاصة للتربة من محسنات أو معالجات أو أسمدة إضافية، كذلك المعاينات التي يترتب عليها تكاليف مقاومة الآفات والحشائش وتطهير المصارف والترع، وتقرير نسبة ما يدفعه كل مزارع حسب مساحته وزراعته مضروبا في قيمة ما قدم له من خدمات طوال الموسم الزراعي… إلي آخره.
باختصار كانت الجمعية الزراعية هي مركز الحياة بالنسبة للفلاح، وبالتالي كان موظف الزراعة وموظف بنك التسليف في القرية هو شخص له من الاهتمام والأهمية وربما القوة والسطوة أحيانا، ما للكبار والوجهاء من قيمة وحضور.
وكانت وظيفة المشرف التعاوني التي شغلها عم عبده زغلوله، الذي لم يكن أفنديا يرتدي القميص والبنطلون والجواكت وما شابه ذلك من ملابس البهوات والأفندية الذين كانوا يهبطون على القرية من المركز المدني أو يخرجون من القرية إلى المركز المدني بحكم التعلم والتوظف في هذا المركز في اعداد قليلة ومعروفة لجميع سكان القرية.. كانت وظيفة المشرف التعاوني من اهم الوظائف بالنسبة لفلاحي القرية المصرية.
فالمشرف التعاوني هو الذى يقوم من مكتبه الثابت في الجمعية الزراعية؛ مندوبا لبنك التسليف بإدارة مخازنه الملحقة بمبني الجمعية الزراعية، وهو من يأمر أمين مخازنه المعاون له بتوزيع ما بها من بذور وتقاوي وأسمدة ومخصبات ومحسنات تربة حسب ما يوجد ببطاقة حيازة كل فلاح؛ طبقا لكشوف الحصر المحصولي سواء المزمع زراعته أو المنزرع فعلا على الطبيعة.
كذلك هو من كان يقوم بتسليم “السُّلف” المالية التي في حوزته كعهدة من البنك إلى الفلاحين؛ وفقا لمقتضيات خدمة زراعة محاصيل الدورة الزراعية، كذلك فهو من كان يتولى عملية دفع مقدمات أثمان المحاصيل المُسلّمة من الفلاحين للدولة عقب نهاية كل محصول، وكذلك الأثمان النهائية بعد التسلم النهائي للمحصول، ثم صرف ما ينتج عن فروقات تقييم جديد للمحاصيل أو حوافز جديدة مقدمة من الدولة لأنواع بعينها من المحاصيل التي كان يأتي القطن على رأسها.
لك أن تتخيل بعد ذلك حجم الطوابير التي كانت تقف أمام المشرف التعاوني كل يوم، وحجم الطلبات والتوسلات والوسائط التي تقف أمامه، بما يصنع لهذه الوظيفة من أهمية وهيبة، ولصاحبها من مركز قوي بشري مهاب في القرية.
ولما كان أحد أبناء العائلات الكبرى في هذه القرية التي ذهب إليها عم عبده زغلولة، منتدبا من بنك التسليف الزراعي، كان يقوم بوظيفة المشرف الزراعي تكاثرت شكاوى الفلاحين من محاباته لأقاربه ولبعض العائلات في توزيع بذرة القطن، ووصلت الشكاوى لجهات أعلى؛ فنقل هو ومساعده إلى مركز آخر، وعلى إثر ذلك انتدب بنك التسليف عم عبده زغلولة مؤقتا مشرفا تعاونيا لهذه القرية مع احتفاظه بمسئوليات المشرف التعاوني في قريته؛ لحين صدور قرارات البنك الرئيسي بتعيين الطاقم الجديد، وهي عملية كانت تستغرق ما لا يقل عن ثلاثة أشهر وربما أكثر.
وسيندهش الكثيرون حينما يعرفون أن عم عبده زغلولة هذا الذي يجلس وأمامه الأوراق المحملة بالأرقام والحسابات المعقدة وفي يده القلم ونظارة القراءة لم يكن يحمل أي شهادة تعليمية، ولن يندهش الذين عاصروا مرحلة الستينيات والسبعينيات؛ لأنه عندما قامت الدولة بتأميم تجارة القطن في ستينيات القرن الماضي؛ عوّضت تجار القطن بأن عينتهم في وظائف داخل الاتحاد التعاوني، والجمعيات الزراعية وبنك التسليف الذى كان تابعا لوزارة الزراعة، كما فتحت المجال لأبناء القرى الذين كانوا يعملون وسطاء تجارة أو عمالا للتجار الكبار؛ أن يدخلوا ضمن وظائف الجمعيات وبنك التسليف، بعد اجتياز اختبار بسيط في القراءة والكتابة، دونما أي اشتراط للحصول علي أي من الشهادات الدراسية، ثم إن بنك التسليف نفسه عندما شرع في نشر فروعه في الأقاليم والمراكز والقرى المصرية – اضطر إلى أن يستعين بعمالة الجمعيات الزراعية من الكَتَبَة الذين كان من بينهم من لم يكونوا يحملون أية شهادات دراسية.. وأقلهم حاصل على الابتدائية أو الإعدادية.
ومع ذلك كان عم عبده زغلولة نابغة في عمله؛ لدرجة أنه بمجرد أن ينتهي من تقفيل يومياته وضبط حسابات اليوم، علي ما تبقي من محتويات المخازن وعهد نقدية، يقوم متأبطا حقيبته الجلدية المنتفخة بدفاتره وأوراقه راكبا إلى إدارة البنك في المدينة لتسوية ما لديه، ثم يجلس بين موظفي الحسابات ليتبارى معهم في حل أعقد العمليات الحسابية، في وقت لم تكن فيه الأجهزة والآلات الحاسبة قد دخلت الخدمة في بنك التسليف الذي كان يعتمد على الدفاتر المطولة وأقلام الكوبيا التي كانت هي فقط ما تتوافر للمحاسبين وكُتّاب الحسابات والصرافين في بنك التسليف.
رغم حرب الشكاوى المجهولة التي شنها أصحاب المصالح الشهيرة “أنقذونا من سفاح كرموز” أتم عم عبده زغلولة مهمته في القرية التي أرسلوه إليها وعاد إلى التفرغ لعمله بقريته الصغيرة التي كانت تنحصر ما بين هامش المدينة والقرى الكبيرة، وكقرية هامشية كانت قريته تتسم بمساحات الأراضي الزراعية المفتتة الملكية، بحيث يندر أن تجد فيها من يملك أكثر من ثلاثة أفدنة، بينما كان غالبيتها من المزارعين يمتلكون أقل من ذلك، ولأن زمامها كان عبارة عن لسان يحده النيل من الناحية الرئيسية، فكان قسم كبير من فلاحيها يعتمدون علي زراعة مساحات صغيرة تبدو كشرائط أرضية خضراء على شاطئ النيل وكانت تسمى (كنارات) جمع (كنارة) وكانت هذه الكنائر أو الكنارات لا تزرع سوى الخضروات، وكان عم عبده زغلولة هو نجم هذه القرية، وفارسها الأول ورجل خدماتها.. ليس فقط لأنه كان مشرفها التعاوني، لكنه كان قد تعوّد أن يحمل علي كاهله بحكم طبيعة عمله وكونه ابنا من أبناء القرية البسطاء، هموم جيرانه وأصدقائه في القرية، ولذلك صار عضوا في لجنة الاتحاد الاشتراكي في القرية –قبل حله في منتصف سبعينيات القرن الماضي– وقد زاده هذا اهتماما بكل شئون قريته وأهلها.
بالتأكيد سيسأل البعض عن مدي درايتي بهذه الأخبار، ومن ثم درايتي بعم عبده زغلولة، وسأحكي لكم قصتي مع عم عبده زغلولة والتي ربما ستساعدكم في التعمق أكثر في طبيعة شخصية هذا الرجل الاستثنائية الخارقة رغم بساطته المادية والاجتماعية.