خلال الأعوام الثلاثين من وجود بريطانيا في فلسطين(1917– 1948) جرت هجرة يهودية واسعة النطاق منالخارج، وخاصة من شرق أوروبا؛ وهو ما أدي إلى ارتفاعنسبة سكان فلسطين من اليهود – الذين كانوا أساسًا منالمهاجرين– من أقل من 10 % عام 1910 إلى أكثر من 30 % عام 1947.
وقد كان اندلاع الثورة عام 1936، نتيجة للمطالباتالفلسطينية بالاستقلال ومقاومة الهجرة اليهودية؛ وهو الأمرالذي أدى إلى أعمال عنف مستمرة، فما كان من بريطانيا،بوصفها الدولة المنتدبة، إلا النظر في صياغات مختلفة لهذاالبلد، منها: مشروع التقسيم، ومنها: مشروع للحكم الذاتيالإقليمي، ومنها: مشروع مفاده قيام فلسطين المستقلة.
إلا أن هذه “الصياغات ـ المشروعات” قد أهملت جميعها،وتمت إحالة المسألة برمتها (المسألة الفلسطينية) إلى هيئةالأمم المتحدة فبراير 1947.
القدس والأمم المتحدة
والواقع أن انتقال المسألة الفلسطينية إلى هيئة الأممالمتحدة، كان قد أدى إلى دخول “القدس” مرحلة جديدة؛ بلإن القدس قد بدأت تأخذ خصوصية معينة في الصراع بين“العرب.. وإسرائيل” وذلك كنتيجة مباشرة لقرار تقسيمفلسطين، الذي أصدرته الجمعية العامة برقم 181، بتاريخ29 نوفمبر 1947.
ولعل هذا القرار، يعتبر أول قرار دولي يصدر عن هيئة الأمم،ويتناول القضية الفلسطينية، وفي القلب منها وضعية مدينةالقدس. ومن ثم يمكن القول إن مثل هذا القرار هو أولمعالجة قانونية (أي في إطار القانون الدولي) لمدينة القدس.
ومن الجدير ذكره أن “القسم الثالث” من القرار “181” بشأن تقسيم فلسطين؛ كان قد اعتبر أن “تدويل القدس” هوأفضل وسيلة لحماية جميع المصالح الدينية في المدينةالمقدسة.
إلا أنه في الوقت نفسه كان قد نص على جعل منطقة القدس(لا مدينة القدس وحدها) منطقة قائمة بذاتها؛ وجعلها تضمبلدية القدس مضافا إليها القرى المحيطة بها، بحيث تكونقرية أبو ديس أقصاها في الشرق، وبيت لحم أقصاها فيالجنوب، وعين كارم أقصاها في الغرب، وشعفاط أقصاهافي الشمال.
ومع انتقال قضية القدس والمسألة الفلسطينية عموما، إلىالمنظمة الدولية، أصبحت تشغل حيزا بارزا في نطاق الأممالمتحدة. بل إنها كانت ولا تزال من أهم القضايا التي تفرعتعن المسألة الأساس أو القضية الأم. وقد ناقشها العديد منأجهزة الأمم المتحدة الرئيسة كالجمعية العامة، ومجلسالوصاية، ومجلس الأمن.
وكانت هذه الأجهزة والهيئات، قد أصدرت قرارات وتوصياتشتى إزاء قضية القدس، ووضعت حلولا خاصة بها، منمنظور أنها قضية ذات اعتبارات خاصة. ولعل مثل هذاالاهتمام، الذي أعطى لقضية القدس داخل المنظمة الدوليةوهيئاتها وأجهزتها المختلفة، لم يكن سوى انعكاسلاهتمامات الرأي العام العالمي بها عبر التاريخ.
القدس والجمعية العامة
وعلى وجه العموم، فإن الوضع الدولي لمدينة القدس قد مربعدة مراحل، وذلك تبعا لتطور المراحل التي مر بها الصراعبين “العرب.. وإسرائيل“.
في المرحلة الأولى التي امتدت من الإعلان عن قيام الدولةالعبرية في 15 مايو 1948، وحتى نشوب حرب 5 يونيو1967، ولعل أهم ما تتسم به هذه المرحلة، أنها كانت المرحلةالتي خضعت فيها مدينة القدس، لأول مرة في تاريخها، إلىإدارتين منفصلتين.
ففي خريف العام 1948، كانت القوات الإسرائيلية قد احتلتمدينة القدس (الجديدة) بكل أحيائها العربية؛ كما سيطرتالقوات الأردنية على القدس القديمة، وفيها الأماكن المقدسةكلها، وتمركزت قوات الفريقين المتقاتلين في مناطقهما.
وحين انتهت الحرب العربية الإسرائيلية، كانت القواتالإسرائيلية قد تمكنت من احتلال 66.2 % من المساحةالكلية لمدينة القدس التي كان قد تقرر تدويلها من قبل الأممالمتحدة.
والملاحظ أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم تصدر خلالهذه المرحلة سوى أربعة قرارات بخصوص المدينة المقدسة.
فهناك القرار رقم 356 الصادر في 10 ديسمبر 1945،الخاص بفتح اعتماد نظام دولي دائم للقدس. غير أن هذاالقرار كان قد ألغى بقرار لاحق، هو القرار رقم 468 الصادرفي 14 يناير 1950، بسبب عدم حصول القرار 356 علىموافقة أعضاء الجمعية العامة.
وهناك أيضا القرار رقم 194 الصادر في 11 ديسمبر1948، الذي حثت فيه الجمعية العامة إسرائيل على ضرورةاحترام الوضع الخاص بالقدس، طبقا لبنود قرار التقسيم. ثم هناك القرار رقم 303 الصادر في 9 يناير 1949، الذيأعاد التأكيد على “وجوب وضع القدس في ظل نظام دولي،يجسد ضمانات ملائمة لحماية الأماكن المقدسة داخلالقدس وخارجها، وأن ينشأ في مدينة القدس كيان منفصلتحت حكم دولي خاص، تقوم على إدارته الأمم المتحدة“.
وبالنسبة إلى “مجلس الأمن” فقد كان دوره في هذه المرحلةمقصورا على حث الأطراف المعنية (العرب وإسرائيل) علىالالتزام بقرار الهدنة، وعلى ضرورة صيانة الوضع الخاصللمدينة.
ـ وفي المرحلة الثانية؛ المرحلة التي امتدت منذ حرب 5 يونيو1967، إلى انطلاق مؤتمر مدريد في عام 1991، فإن أهمما تتسم به هو الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس بكاملها(بل لفلسطين بكاملها) وإعلان إسرائيل القدس “عاصمةموحدة لها“ مع استمرار الاستهداف المتسارع الإيقاع فيعمليات تهويد القدس، وحصارها وعزلها عن بقية الأراضيالفلسطينية من خلال الأحزمة الاستيطانية حولها.
والملاحظ، هنا بخصوص هذه المرحلة هو صدور عشراتالقرارات عن المنظمة الدولية بعد ضم إسرائيل للقدسالشرقية، وتوحيد المدينة تحت السيادة الإسرائيلية، طالبتفيها الأمم المتحدة إسرائيل بالتراجع عن إجراءاتها ووقفأعمالها غير الشرعية؛ الأمر الذي أهملته إسرائيل، حيث لمتعر اهتماما لكل القرارات الدولية بشأن القدس؛ بل استمرتفي تنفيذ سياسات التهويد وفرض الأمر الواقع.
القدس ومجلس الأمن
ولعل أهم ما يأتي في شأن هذه القرارات، سواء الصادرةعن الجمعية العامة، أو الصادرة عن مجلس الأمن، أنهاجميعًا جاءت لتؤكد عدم اعتراف المنظمة الدولية عمومًا،ومجلس الأمن خصوصًا، بعملية ضم إسرائيل لمدينة القدس. وبالتالي عدم الاعتراف بالإجراءات الإدارية والتشريعيةالتي قامت بها إسرائيل، واعتبرتها باطلة.
ومن الأمثلة الدالة على ذلك.. القرار رقم 267 الصادر في 3 يوليو 1969، الذي جاء توكيدا للقرار 252 الصادر في 21 مايو 1968، الذي كان قد أشار إلى أن مجلس الأمن: “يشجب بشدة جميع الإجراءات المتخذة لتغيير وضعالقدس، وأن جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والأعمالالتي اتخذتها إسرائيل من أجل تغيير وضع القدس، بما فيذلك مصادرة الأراضي والممتلكات، هي أعمال باطلة ولايمكن أن يغير وضع القدس“.
وفي حين جاء القرار 271 الصادر في 15 سبتمبر 1969،إدانة لإسرائيل بعد حريق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969، فقد جاء القرار 478 الصادر في 2 أغسطس 1980، لشجب مصادقة الكنيست الإسرائيليعلى “قانون أساسي” لضم القدس نهائيا إلى إسرائيل.
إذ أكد القرار 271على “إن مصادقة إسرائيل على القانونالأساسي تشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي، ولا تؤثرفي استمرار انطباق اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة في 12 أغسطس 1949، المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب، علىالأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية التيتحتلها إسرائيل منذ عام 1967، بما في ذلك القدس“.
ومن ثم.. فإن تفحصا دقيقا للقرارات الصادرة عن الجمعيةالعامة ومجلس الأمن، خلال هذه المرحلة، وكذا المرحلة التيسبقتها، تؤكد على أن كل ما اتخذته إسرائيل من تدابيروإجراءات في القدس، يعد باطلًا ولاغيا. وهذا يعني عدماعتراف المنظمة الدولية، والهيئات المتفرعة عنها، بسيادةإسرائيل على القدس.
ـ أما المرحلة الأخيرة؛ فهي المرحلة الممتدة منذ انطلاق عمليةالتسوية السلمية بين “العرب.. وإسرائيل” في إثر مؤتمرمدريد عام 1991، وحتى وقتنا الراهن.
ولعل أهم ما تتسم به هذه المرحلة، هو تحول القدس منقضية دولية، إلى قضية إقليمية يجري التفاوض بشأنهاضمن الإطار العام للقضية الرئيسة، قضية الصراع بينالعرب وإسرائيل، ومحاولات تسويتها سلميا على طاولةالمفاوضات، في ما بين الأطراف المعنية.
ولأن طاولة المفاوضات تخضع لمقاييس أخرى، غير تلكالمقاييس المعتمدة لدى المنظمة الدولية؛ على الأقل من منظورالفارق الواضح بين القانون الدولي الذي تستند إليه المنظمةالدولية، وبين مقياس القوة الذي تستند إليه المفاوضات.. لذافإن التساؤل الذي نود أن نطرحه، هنا، هو التالي:
ترى.. هل كسبت قضية القدس، عندما تحولت إلى محضقضية معلقة ومؤجلة من قضايا المفاوضات؛ أم أنها خسرت،وخسر معها العرب والمسلمون والمسيحيون الكثير؟!