ما هو مفهوم “النسخ”، وما هي دلالة المصطلح، كما ورد في التنزيل الحكيم(؟)
يلامس هذا التساؤل –في حقيقته– إحدى الإشكاليات الناتجة عن ما يسميه البعض “الناسخ والمنسوخ” في القرآن الكريم؛ وهي إشكالية كبرى، تأتي ضمن إشكاليات الفكر العربي الإسلامي، في التعامل مع آيات التنزيل الحكيم اعتمادا على الأسلوب التجزيئي لهذ الآيات؛ وهو أسلوب أقل ما يقال في شأنه، أنه أسلوب خاطئ يساهم في توليد مجموعة من المفاهيم المغلوطة، والتي كان من آثارها “هجر القرآن” والإقبال على “مرويات” لا ترقى حتى إلى مستوى الأحاديث الضعيفة.
وهنا لنا أن نؤكد بداية على أن الخلل في فهم دلالات ألفاظ التنزيل الحكيم، لا يقود إلى مجرد إشكاليات لفظية؛ بل إنه يؤدي إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير.. إذ إنه أدى فعليا إلى تفرقة المسلمين إلى نحل ومذاهب، تدعي كل “نحلة” منها أنها تمتلك “الحقيقة المطلقة”. وهذا بالطبع لا يتساوى مع الاختلاف في الرأي الذي لا يفسد للود قضية.
أيضا لنا أن نؤكد على أن “الناسخ والمنسوخ” قضية خلافية وليست من “المعلوم بالدين بالضرورة”، ولا يوجد حديث منسوب إلى رسول الله –عليه الصلاة والسلام– يقول بأن آية ما قد نسختها آية أخرى. ولن نحتج هنا بأن علماء مسلمين كبار قد أنكروا مثل هذا “الإفك العظيم”، أي: القول بـ”النسخ” بمعنى المحو والإلغاء.. لكننا سوف نحتج بآيات الله البينات، عبر محاولة تلمس دلالة مصطلح “النسخ”، ومفهومه في التنزيل الحكيم.
تناقض التعريف
لكن قبل أن نحاول تلمس دلالة المصطلح في التنزيل الحكيم، لنا أن نُلقي نظرة على التناقض الوارد في كثير من معاجم اللغة العربية، بخصوص “النسخ”.
جاء في “لسان العرب” لابن منظور، أن: “نسخ الشيء، ينسخه نسخا وانتسخه واستنسخه: اكتتبه عن معارضة.. التهذيب: النسخ اكتتابك كتابا عن كتاب حرفا بحرف، والأصل نسخة؛ والمكتوب عنه نسخة لأنه قام مقامه. وفي التنزيل “إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”، أي نستنسخ ما تكتب الحفظة فيثبت عند الله”.. ثم يضيف: “والنسخ: إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه”.
ولم يختلف ابن سيده كثيرا عما ذكره ابن منظور، فقد جاء في معجمه “المحكم والمحيط الأعظم”، ما يمكن اعتباره صورة طبق الأصل من لسان العرب، حيث قال: “نسخ الشيء ينسخه، وانتسخه، واستنسخه: اكتتبه عن معارضة؛ وفي التنزيل “إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”، أي: نستنسخ ما تكتب الحفظة فيثبت عند الله تعالى”.. ثم يُضيف: “والنسخ: إبطال الشيء وإقامة شيء مقامه”.
والتناقض واضح، بين القول بأن “نسخ الشيء اكتتابه”، وبين الإشارة إلى أن “النسخ إبطال الشيء”. وربما الوحيد الموضوعي في هذا الشأن هو معجم “مقاييس اللغة” لابن فارس حيث أكد على أن: “نسخ: النون والسين والخاء أصل واحد، إلا أنه مختلف في قياسه. قال قوم: قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه. وقال آخرون: قياسه تحويل شيء إلى شيء. قالوا النسخ: نسخ الكتاب”.
وبصرف النظر عن التساؤل حول تثبيت معنى محدد للنسخ من جانب البعض، وتحويله إلى قاعدة يمكن على أساسها ومن خلالها تفسير آيات التنزيل الحكيم، بصورة أقل ما يقال في شأنها أنها “خاطئة”، وأدت إلى إشكاليات كبرى ضمن إطار ما يُعرف بـ”الفقه الإسلامي”.. بصرف النظر مؤقتًا عن ذلك، يكفي أن نشير إلى بعض آخر يحاول عن “خطأ” أيضا القول بأن “النسخ من أفعال الأضداد في اللغة العربية”.
إذ ها هنا يمكن الاستشهاد بما يقوله الفخر الرازي في “التفسير الكبير ومفاتيح الغيب”، حيث يقول إن: “النسخ هو النقل والتحويل، ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر.. وقال تعالى “إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”، فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل، ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإبطال معا دفعا للاشتراك”.. ثم يضيف: “إن أهل اللغة أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح” [حيث أشار كثير من المعاجم اللغوية، إلى أنه يُقال: الشمس نسخت الظل، ونسخت الريح الرمال].
وأيا يكن الأمر، فإن الخلط الخاطئ في مفهوم النسخ لدى البعض، ومحاولة البعض الآخر في إيجاد مخرج “لغوي” لمعنى النسخ، لأجل تثبيت أن آيات الله البينات بها “ناسخ ومنسوخ”.. هذا الخلط الخاطئ يُعبر عن نفسه في اختلاف القائلين بالنسخ في ما بينهم، سواء في كيفية النسخ أو عدد الآيات المنسوخة..
فمنهم من قال بأن النسخ هو تخصيص العام أو تقييد المطلق، ومنهم من قال بأن القرآن لا يُنسخ إلا بالقرآن، ومنهم من قال ـ وهذا هو الأكثر عجبًا ـ بأن الحديث ينسخ القرآن، ومنهم من حاول إيجاد مخرج “عقيدي” فقال بأن الإسلام ناسخ للشرائع السابقة؛ وهؤلاء جميعا نختلف معهم، بمن فيهم أصحاب الرأي الأخير، مثل المفكر السوداني حاج حمد، والمفكر السوري محمد شحرور.
وهذا، لابد أن يدفعنا إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، لمحاولة تلمس دلالة مصطلح “النسخ” في القرآن الكريم.
دلالة المصطلح
جاء مصطلح “نسخ” في آيات التنزيل الحكيم، في أربعة مواضع: سورة البقرة [106]، والأعراف [154]، والحج [52]، والجاثية [45].. وسوف نتناول هنا الآية التي وردت في سورة الجاثية.. على أن نتناول الآيات الأخريات في مقالنا القادم، بإذن الله تعالى.
يقول الله سبحانه وتعالى: “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ • وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ • هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” [الجاثية: 27-29]. وكما هو واضح، فقد جاءت الآية في معرض الحديث القرآني عن يوم القيامة “يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ”، وعن خسارة “الْمُبْطِلُونَ”؛ والأهم في معرض الحديث حول “الحساب الجماعي”، وليس الحساب الفردي.
وهنا لنا أن نشير إلى جانبين اثنين..
فمن جانب، نجد في التنزيل الحكيم تمييزا دقيقا بين العمل الفردي الذي يُنسب إلى الفرد، وبين العمل الجماعي الذي يختص بالجماعة أو الأمة.. يقول سبحانه: “وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا • اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا” [الإسراء: 13-14].. هنا كل إنسان مرهون بكتابه، لكل منا كتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة من أعمالنا، من حسنات وسيئات، من هفوات وسقطات؛ الكتاب الذي كُتب بإذن وعلم من لا يغرب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماء.
أما في قوله تعالى: “وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” [الجاثية: 28].. فهنا الحديث عن كتاب الأمة “أُمَّةٍ جَاثِيَةً” بين يدي ربها ويقدم لها كتابها، كتاب فيه سجل نشاطها وأعمالها في حياتها كأمة. ومن ثم يبدو بوضوح أن ثمة تمييزًا قرآنيًا نوعيًا بين الكتابين: الكتاب الفردي الإنساني “كُلَّ إِنسَانٍ”، والكتاب الجماعي لكل أمة “كُلَّ أُمَّةٍ”.
من جانب آخر، لنا أن نلاحظ التمييز القرآني الدقيق بين “نَسْتَنسِخُ” وبين “سَنَكْتُبُ”، من حيث الدلالة.. ففي قوله سبحانه وتعالى: “أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا • أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا • كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا” [مريم: 77-79]، يأتي مصطلح “سَنَكْتُبُ” ـ كفعل مستقبلي ـ مُتعلقًا بالقول، أي لـ”مَا يَقُولُ”.. وهو ما يتأكد، أيضًا، في قوله سبحانه: “وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا” [النساء: 81]؛ وكذلك في قوله تعالى: “أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ” [الزخرف: 80].
أما في قوله سبحانه وتعالى: “هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” [الجاثية: 29]، يؤكد المولى عز وجل أن “نَسْتَنسِخُ” تختص بـ”مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”؛ أي: إن أولى الملامح الدلالية لمفهوم “النسخ”، أنه “نسخ أعمال الأمة نسخًا”، بمعنى أنه تسجيل وتدوين تلك الأعمال، بشكل يكون معه هذا “النسخ” صورة طبق الأصل من أعمال الأمة؛ والدليل، أن “كتاب استنساخ الأعمال”، هذا، إنما ينطق بالحق: “هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ”.
وهذه، في اعتقادنا، القاعدة الأساس التي ينبني عليها مفهوم “النسخ”.
فأين هذا من المفهوم الذي حاول البعض تثبيته، المفهوم الذي يعني لديهم “المحو والإلغاء”(؟)..