في مثل هذا الوقت من كل عام يثور الجدل حول عدم فوز أي مبدع عربي بجائزة نوبل للآداب، منذ فاز بها نجيب محفوظ عام 1988، مع هذا الجدل تتعالى نبرة النعرات الشوفينية بين أبناء الوطن الواحد عن أحقية أحد المبدعين من قُطر ما دون الآخر.. وذلك في انحيازات ساذجة ربما لا علاقة لها بالقيمة الفنية أو المنجز الإبداعي لهذا أو ذاك.. لتتعالى الأصوات المشككة في الجائزة ونوايا وأهداف مانحيها ومدى ارتباطها بالصهيونية العالمية وأذرعها الممتدة في كل مكان.
وقد طالعت اليوم منشورا على أحد مواقع التواصل الاجتماعي يتناول المقارنة بين شاعرين عربيين ومدى أحقية أيهما بالجائزة التي طارت هذا العام إلى الكاتبة الفرنسية آني إرنو التي تجاوزت الثمانين من عمرها.. مؤكدة لنا جميعا أن السن مجرد رقم وفق المقولة الذائعة والمستهلكة جدا حد الابتذال.
لم أسمع كغيري باسم الكاتبة الفائزة بالجائرة سوى لحظة إعلان فوزها في وسائل الإعلام.. وكعادتي دأبت على الفور بحثا عن كل ما يتعلق بها من معلومات، وتحميل المتاح من كتبها المترجمة إلى العربية، والتعرف على تجربتها الإنسانية والإبداعية بقدر ما يتيح لي الكتابة عنها على عجل.
بالطبع لا ترقى المعرفة التي حصلتها منذ الأمس عن آني إرنو إلى مستوى إصدار الأحكام؛ لكن ما قرأته -وهو ليس بكثير- يجعلني أجزم أن إرنو صاحبة تجربة إنسانية بالغة الثراء استطاعت ترجمتها إبداعيا في أكثر من ثلاثين كتابا.. حرصت خلالها على الصدق الخشن بعيدا عن ابتزاز المشاعر.. من أجل التخفف من آلام تجربة هي أقرب إلى الشقاء منها إلى السعادة رغم النجاحات المتعددة، والخروج من هوة الفقر والعوز والدونية إلى آفاق جديدة في مجتمع برجوازي يغاير طبقتها البائسة، ويدّعي لنفسه الأفضلية والاستئثار بالقيمة.. وفي عبارات سريعة صادمة تصف آني هذا الشعور القاسي بقولها: “كان موت أبي المفاجئ، سنة نجاحي في مسابقة الأستاذية حدثا فاجعا. وراء الحزن غمرني يقين بخيانة طبقية.. كنت قد انتقلت دون شعور من عالم أصلي، شعبي، عالم أبي، إلى عالم آخر، عالم البرجوازية المثقفة التي تعتبر نفسها الوحيدة حاملة القيمة، كنا قد عشنا أبي وأنا في داخل ذات الأسرة.. صراع الطبقات الاجتماعية السائد في المجتمع بأسره”.
بمجرد قراءة تلك الكلمات في افتتاحية كتاب إرنو المعنون بـ “المكان” والذي خصّصته للحديث عن أبيها العامل البسيط، وصاحب المقهى ومحل البقالة فيما بعد – أحسست باقتراب وجداني ما من عالم الكاتبة؛ اقتراب يحمل الوجع الإنساني الخالص دون مواربة أو ابتذال أو غواية اللغة التي تصل بالكاتب في أحيان كثيرة إلى الاستغراق في الثرثرة! فكرت أن قراءاتي المتكررة لإنتاج الشاعرين المذكورين في الجدل الشوفيني منذ أمس لم تمس قلبي أبدا رغم تعدد المحاولات.. لا شك أن أسوارا عالية حالت بيني وبين الأول، وهو متغرب عاش ينتقص من كل ما يمت للعربية بصلة، ربما خطبا لود الغرب، والثاني وما له من تاريخ في النكوص والتخلي عن كل مبدأ، حتى صار عنوانا على كل مثقف مدجن خانع.. قلت في حُكم لا يخلو من تسرع.. إن آني إرنو تمثلني إنسانيا دونهما، ودون كثيرين من أبناء أمتي العربية الحبيبة.
تقول آني عن كتابها المكان “هذا الكتاب ولد من وجع، وجع أتاني فترة المراهقة، عندما قادتني المتابعة المستمرة للدراسة، ومعاشرة زملاء من البرجوازية الصغيرة إلى الابتعاد عن أبي، العامل السابق، والمالك لمقهى بقالة، وجع بدون اسم، خليط من الشعور بالذنب والعجز والتمرد، لماذا لا يقرأ أبي، لماذا “يسلك بفظاظة”، كما يكتب الروائيون؟ وجع مخجل لا يستطيع الإنسان أن يصرح به أو حتى يشرحه لأحد”.
“للشجاعة والحِدّة التي اكتشفت بها الأصول والاغتراب والابتعاد عن القيود الجماعية للذاكرة الشخصية” بهذا الوصف اُستهل البيان الرسمي الصادر عن الأكاديمية السويدية، إعلانا لفوز الكاتبة الفرنسية آني إرنو بجائزة نوبل للآدب لعام 2022.
إنها كلمات واضحة وحادة وكاشفة ومعبّرة بصدق وجلاء عن إبداع إرنو، وهو إبداع متفرد يستحق كل تقدير، ربما لأنه متجاوز في شكله ومضمونه لكثير من العثرات الفنية والنفسية والعديد من الاعتبارات التي يضعها كثير من الكتّاب نصب أعينهم عند الكتابة.. إن إرنو تطمح منذ كتاباتها الأولى أواسط السبعينات من القرن الماضي- إلى تعرية مجتمعها وفضح نفاقه وازدواجيته، ليس على سبيل الانتقام أو حتى التبرؤ؛ بل على سبيل التحرر من القيود التي ترسف تحتها روحها المعذبة.. إنها تدعو إلى مشاركة واسعة في حمل تلك الآلام؛ ليس للتخلص منها أو نسيانها بل لمنحها ختم البقاء والحصانة المطلقة ضد التهميش والنسيان والبدد.. إرنو لا تترك لنا الفرصة لتفهم ذلك أو تلمسه من بين السطور.. هي تقوله لنا صراحة.. “وإذا كان ثمة تحرر عبر الكتابة، فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناس مجهولين في تجربة مشتركة، ولمن يعيش ممزقا بين ثقافتين، ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة وجعله في النهاية لا ينسى”.
في عالمنا العربي نضع تجارب كاتبات عربيات مثل: لطيفة الزيات وفدوى طوقان ورضوى عاشور وحنان الشيخ وسلوى النعيمي وهدى بركات.. وغيرهن كثيرات – في الاعتبار عندما نتحدث عن الرَوَيِّ الذي يرتكز على السيرة الذاتية، وتبقى التقاليد والأعراف وثقافتنا التليدة.. نصالا حادة وعقبانا تحلق فوق رءوس مبدعاتنا، فيكون ذلك سببا مباشرا في مجانبة الإنصاف أو التجني على ذلك النتاج الذي سيصفه البعض، بتكلف الانسلاخ من قيمنا لدواعٍ معروفة.. وفي الغالب سيذهب البعض بوقار مُدعى إلى التساؤل.. ما كل هذا التبجح؟! فبعضنا يرى الإبداع النسائي العربي ناتئ وغير جدير بالتوقف عنده.. بطريقة ما أفلتت آني إرنو من ظروف اجتماعية بالغة القسوة تشبه في بعضها ما ذكرت؛ لتقول لنا أشياء خاصة جدا عن نفسها وعن أفراد أسرتها، دون أن تفلت للحظة هذا الخيط الإنساني المتين الذي يجعلها تصل إلينا متى شاءت دون تكبد كبير عناء.
معايشة أحداث الحرب العالمية الثانية بالنسبة للطفلة آني كان شديد الوطأة.. إنزال النورماندي الشهير على السواحل الفرنسية الذي خلّف آلاف القتلى صيف 1944، كان على مقربة من بدلتها “يفيتو” التي عاشت فيها طفولة بائسة وكانت الرابعة من بين ستة أطفال أنجبتهم أمّها التي امتهنت الخياطة، في حين كان الأب يعمل سائقا.. كان الفقر مدقعا، ما اضطر إرنو لمغادرة مقاعد الدراسة وهي في سن الرابعة عشرة، لتصير عاملة في مصنع للحبال. “ولكن الصبيّة اليافعة -آنذاك- كانت مملوءة بالزهو والفخر لما كانت تراه في نفسها من تحضّر لا تتمتع به فتيات الريف اللواتي كـن ما زلن يـجـرين بهمجية وراء الأبقار”.
تتمرد آني على هذا المصير وتتزوج من رجل كادح صموت حسب وصفها، ليحقق معها حلمها الصغير بامتلاك متجر.. لكنها ما تلبث أن تستسلم للحنين إلى مقاعد الدراسة؛ ضاربة عرض الحائط بكلمات أمها القاسية، وتوبيخها المستمر. “أحاول ألا أتأمل غضب أمّي، ولا حـبّها الجارف ولا كلماتها الموبَّخة كخصالٍ مميزة لطبعها الشخصي، بل لأموضع تلك الخصال داخل سياق قصة حياتها ووضعها الاجتماعي”.
شخصية الأم الغنية بالتفاصيل هي ما دفعت آني لكتابة كتاب عنها وصفته بأنه “ليس سيرة، ولا رواية طبعا. ربما هو شيء يقع بين الأدب وعلم الاجتماع والتاريخ. إذ كان من الضروري أن تتحول والدتي، التي ولدت في وسط مقهور لطالما تمنت الخروج منه، إلى تاريخ حتى أشعر بأنني أقل وحدة وتكلفا في عالم الكلمات والأفكار القاهر، الذي انتقلت إليه نزولا عند رغبتها.. لن أسمع صوتها مجددا. إنها هي وكلماتها ويداها وحركاتها وأسلوبها في الضحك ومشيتها، من كانت تُوحّد المرأة التي أنا عليها اليوم، بالطفلة التي كنتها في السابق. وبموتها فقدت آخر رابط بيني وبين العالم الذي جئت منه”.
تمنحنا آني أسبابا جديدة لم نكن غافلين عنها؛ لكنها لم تكن بذلك الوضوح– للكتابة عن آبائنا وأمهاتنا؛ ليس لكونهم أشخاصا استثنائيين أو جديرين بالكتابة عنهم دون غيرهم.. لكننا مطالبون بفعل ذلك تأريخا للقهر والمظلمة التي عانى منهما هؤلاء.. كتابة لا تحمل من معاني الوفاء الكثير؛ لكنها تحمل الاعتراف الكامل بقوة التأثير في صياغة التفاصيل الدقيقة المميزة للكائن البشري.. فإذا كان لا يوجد ثمة تشابه بينك وبين أحد.. فذاك فضل كبير لابد ان ترجعه لصاحبه.. على هذا النحو الصارم ننتقل مع آني إرنو في جولتها بين أعمالها؛ لإعادة الحق إلى أهله، دون تفضل ولا مثاليات.. بل انتصارٍ للألم والمحنة وللتجربة الإنسانية الخشنة حد الجراح الغائرة.
“تعاود إيرنو أثناء عملية الكتابة تأمّـل كـتابتـها تأملا ممتعا لا يبعث على الملل، وهو مـا أنتج كتابة شعرية خالصة. فمن أجل إعادة تمثيل حـياةٍ فقيرة اقتصرت على “ما هو ضروري فقط”، لم يكن أمامها سوى نـبـذ جماليات الفن بوصفها وسيلة لتمثيل تلك الحياة القاسية، فنأتْ بنفسها تماما عن كتابة نـثـر شائق يمسّ شغاف القلوب، مُكتفية بالوصف، وكانت فكرة “الاكتفاء بمجرد الوصف” مرادفة لكلمة “كتابة الهراء” بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأنه وصف لا يكشف عن واقع يصوّر لنا مشاركة الساردة فيما حدث، فقصرتْ همّها على صنع تأثير أدبي فنيّ فقط، استطاع –عبر تقشّفه الأسلوبي– تصوير قسوة حالة العَوز والحاجة، بل ومضاعفة تصويره من خلال هذا الأسلوب: أي عبر التقشّف في استخدام الكلمات، أو في تعذّر الإمساك بالمفردات المناسبة، أو الفشل في نطقها نطقًا صحيحًا، وكذا في اختيار الملابس غير الملائمة، أو في الخطأ عند قراءة بعض الكلمات، أو في البيئة الاجتماعية غير الملائمة”.
في هذه الأجواء البائسة لا تنسى آني إرنو ذكر ملاحظة تُعمق شعورنا بالألم، عندما كانت أمها تحاول استخدام ألفاظ لا تنتمي لطبقتها الاجتماعية بداعي التجمل كما يفعل الكثيرون منا.. لكنها كانت تستخدمها في غير مواضعها الصحيحة؛ فتثير بذلك سخرية الأب الذي لا يفوت الفرصة.
تعددت كتابات إرنو الحميمة لتتناول تجربة إجهاضها في سن مبكرة، وتجربة زواجها التي عنونت الكتاب عنها بـ “المرأة المجمدة” وكتاب آخر تناولت فيه تجربة الأمومة وعلاقتها بولديها.. ولم يتوقف نهر إبداع الكاتبة عن الجريان حتى الآن إذ صدرت لها مؤخرا رواية بعنوان “الشاب”. ومن الطريف أن الاكاديمية السويدية قد أعلنت منذ قليل فشلها في التواصل مع الكاتبة الفائزة بالجائزة المرموقة؛ لكن محاولات الأكاديمية لم تتوقف بعد.. فهل ستعلن آني إرنو عضو الحزب الشيوعي الفرنسي سابقا، وذات الموقف الموصوم بالعنصرية ومعادة السامية من حراك السترات الصفراء– عن مكان وجودها أم ستظل مُصِرّة على عدم التواصل مع الأكاديمية.. هذا ما ستخبرنا عنه الأيام القليلة القادمة.