إذا أردت أن تبحث على البوابة الإلكترونية لمحافظة المنيا، عن الشخصيات النسائية البارزة التي تنتمي إلى تلك المحافظة، فإنك لن تعثر – وبكل الأسف والأسى – على اسم الدكتورة نعمات أحمد فؤاد (ابنة مغاغة) التي قاومت الجهل، واتخذت من العلم سبيلا للترقي في حياتها.
لقد استطاعت تلك الفتاة، التي نشأت في أسرة مصرية بسيطة في صعيد مصر، أن تكون نموذجا عمليا لكل فتاة تسعى إلى التحرر بالمعنى الحقيقي للحرية المسئولة، وأن تؤكد بشكل ملموس ماهية التكامل الذي يمكن أن تحققه المساواة بين الرجل والمرأة، والتي تتمثل أهميتها في حق كل منهما في التعلم، ومن ثم الحصول على أرقى الدرجات العلمية التي من شأنها أن تؤهل صاحبها كي يكون صاحب كلمة ورأي.
فقيمة الإنسان بالنسبة إلى د. نعمات إنما تتمثل في قدرته على العطاء والبذل وفي نفع من حوله، وليس لذلك علاقة بكونه ذكرا أو أنثى. وها هي قد مكنها نبوغها الدراسي، وما نالته من دعم وتوجيه من أساتذتها بالإضافة إلى رعاية والدها لها – من أن تفلت من قبضة الزواج المبكر، الذي كان وما زال يحاصر الكثيرات في ريف مصر وصعيدها. وبالفعل فقد استطاعت د. نعمات مواصلة تعليمها الثانوي، ثم الجامعي في أربعينيات القرن الماضي، فور انتقالها من أعماق المنيا إلى القاهرة التي وصفت أيامها فيها في كتابٍ لها بعنوان “القاهرة في حياتي”.
وإذا كان تحصيل العلم، والحصول على أعلى الشهادات العلمية، لم يعد قاصرا الآن على عددٍ محدود من الناس –مثلما كان في الماضي– فإن توظيف العلم النافع من أجل أن ينتفع بثماره الجميع ما زال قاصرا على أولئك الذين لهم من الأهداف ما يتسم بالنبل، والذين يَصدُقون في خدمة أوطانهم، غير متملقين لسلطة أو طامعين في منصبٍ أو جاه، ومن هؤلاء كانت ابنة النيل د. نعمات.
ولدت نعمات أحمد فؤاد يوم 25 يناير عام 1924، وحفظت القرآن الكريم، مثل غيرها من فتيات الريف والصعيد المصري اللواتي كان أقصى ما يحصلن عليه آنذاك من تعليم إلزامي هو الشهادة الابتدائية، ولكن ابنة النيل المصرية التي تفوقت في دراستها استطاعت أن تكمل مشوارها التعليمي الجامعي، بعدما حصلت على المركز الأول على مستوى القطر المصري في امتحانات التوجيهية (الثانوية العامة) فكانت بذلك أول فتاة مصرية تحقق ذلك المركز، وذلك بعدما انتقلت من مغاغة إلى القاهرة؛ كي تلتحق بالمدرسة الثانوية الداخلية للبنات في ضاحية حلوان.
ولقد كانت كلية الآداب هي وجهة عروس النيل بعد تفوقها في التوجيهية، ومن ثم فقد التحقت بقسم اللغة العربية وآدابها في الوقت الذي كانت فيه كلية الآداب في أوج سطوعها العلمي، عندما كانت واحدة من الكليات الأربع اللاتي ضمتهم جامعة القاهرة (فؤاد الأول) – أول جامعة مصرية حكومية – إلى جانب كليات: الحقوق والطب والعلوم، وذلك منذ نشأتها في عام 1925.
وفي عام 1948، حصلت ابنة صعيد مصر على ليسانس الآداب، ثم على الماجستير في عام 1952، ومن بعده على الدكتوراه في عام 1959، وكانت عن نهر النيل في الأدب العربي.
https://www.youtube.com/watch?v=TWU8SxNgUwY
لم تكن د. نعمات مجرد أستاذة جامعية؛ رغم أهمية تلك المهمة النبيلة في تثقيف وتعليم الشباب الجامعي قبل أن يخرجوا للحياة العملية، ولكنها تميزت عن قريناتها وقرنائها بكونها كاتبة وباحثة تنشد العلم النافع، وما يمكن أن تكون له من فائدة في توعية جموع الناس بقيمة تراث مصر، وبأهمية الحفاظ عليه والدفاع عنه، إذا ما كانت هناك أية محاولة للاعتداء عليه حتى لو كانت تلك المحاولة من قبل ولاة الأمر أنفسهم.
ولقد بدأت ابنة نيل مصر الكتابة، وهي طفلة في مرحلة التعليم الابتدائي، في سن ثماني سنوات، واستمرت في تنمية موهبتها عن طريق الاستزادة من القراءة والاطلاع، فازدهرت موهبتها تلك وهي في المرحلة الثانوية، ثم وهي في الجامعة بدأت كتاباتها تُنشر في عدة مجلات ثقافية وأدبية؛ فاكتشف موهبتها في كتابة المقالات الأستاذ أحمد حسن الزيات [1885-1968] مؤسس مجلة الرسالة، الذي بادر بتبني موهبتها، ما شجعها على الاستمرار في الكتابة.
ومن بين أهم مقالاتها مقال بعنوان رسالة الأدب في مصر الحرة والذي نشرته مجلة الرسالة الجديدة – التي كان يرأس تحريرها الكاتب يوسف السباعي – في عدد يناير عام 1956، وقد حَوَتْ تلك المقالة بين سطورها ما كانت تنشده عروس النيل من دراسة الأدب العربي الذي تخصصت فيه، والتي كانت ترى أنه يجب أن تتسع أغراضه وأنه في عهد الحرية لابد أن يكون من الشعب وبالشعب وللشعب؛ ليكون أدبا مضيئا قادرا على الخلق والإبداع، وله مدلوله ومضمونه الإنساني؛ فيعبر عن الواقع وما هو مأمول في المستقبل لشعوبنا وأوطاننا من حرية واستقلال حقيقييْن في ظل الصراع بين الشرق والغرب، فيتحرر من التفاهة والانحلال والسطحية، ويلتصق أكثر بالتاريخ الذي عكفت بالفعل على دراسته.
ولم يكن كل ما كانت تنادي به مجرد شعارات جوفاء؛ بل كانت حياتها مثالا واقعيا لجهادها من أجل الدفاع عن حقوق شعب مصر، ومن أجل الحفاظ على ثروات مصر التي تعرف قيمتها جيدا والتي ناضلت من أجل أن يعي عموم الناس تلك القيمة فلا يتهاونون أمام أية محاولة للمساس بها.
أما من اكتشفها في المجال البحثي فهو أستاذها أمين الخولي [1895-1966] وذلك أثناء فترة تدريسه لها بالجامعة، فمنحها إطراؤه على أبحاثها الثقة في نفسها.. ومن تلك الثقة وبعد تحصيل العلم على مدار أعوام طويلة.. تشكل وعي د. نعمات؛ فترجمه قلمها الحر في كتبها التي كانت تعبر عن مواقفها؛ كاتبةً وباحثةً لها رأي وصاحبة قضية، وهو أهم ما تحتاجه أية دولة من أجل النهوض والترقي؛ إذ لابد لها من مساندة أهل العلم والفكر وأصحاب الرأي والرؤية، بعد أن توفر لهم المُناخ الملائم لتكوين شخصياتهم العلمية والفكرية كي تنضج وتزدهر.
“شيء كبير أن يكون للإنسان قلم، ولكن شيئا نفيسا أن يكون للإنسان موقف، ومن نعم الله علي أن وهبني الكلمة والقرار، أعني القدرة على الاختيار الصعب، فعرفت المواقف، وتحملت في سبيل مواقفي الكثير، وعلوت على الإغراءات والعروض والمناصب والبريق، فأعزُّ منها جميعا تراب هذا البلد وكل ذرة من هذا التراب”.
من هذه الكلمات للدكتورة نعمات نتبين قيمة المفكر الحر، ومدى أهميته لوطنه والتي لا تقل عن أهمية الجنود المرابطين على حدوده دفاعا عن أراضيه. فكل دولة تُجفف منابع الفكر الحر وتُنضِب ينابيع الثقافة والتعليم الجيد والنافع؛ لن تجني سوى التخلف والانهيار.. وبالفعل لم يقترن فقط اسم ابنة النيل بكتبها التي ألفتها أو بالمقالات التي ظلت تكتبها في جريدة الأهرام، بل أيضا اقترن اسمها منذ السبعينيات من القرن الماضي بالنضال الحقيقي في معارك لا تقل أهمية عن معارك تحرير الأرض من قبضة المحتل الغاصب، فكانت تدافع ببسالة عن مصر وشعبها وحضارتها وثرواتها بقلمها ورأيها الحر في قضايا مثل: التعليم والمناهج الدراسية للتاريخ واللغة العربية، وقضية هضبة الأهرام، وقضية دفن النفايات الذرية في مصر، وقضية قبة الإمام الحسين، وقضية الآثار الإسلامية، وحق مصر في استرداد ما استولت عليه إسرائيل من آثار مصرية أثناء احتلالها لسيناء.
ولقد اعتلت د. نعمات بعض المناصب الإدارية مثل: مراقب عام الفنون والآداب في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب الذي أسس عام 1956، وتغير اسمه إلى المجلس الأعلى للثقافة منذ عام 1980، وقد وصلت فيه لمنصب مدير عام. هذا بالإضافة إلى دورها في التدريس الجامعي إذ درسَّت في جامعة الأزهر وجامعة حلوان في مصر، وجامعة طرابلس بليبيا، وجامعتي نيويورك وجورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية. كما كانت عضوا في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وفي اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية، بالإضافة إلى كونها رئيس الجمعية العلمية للمحافظة على التراث والآثار التاريخية. ومثلما كان للأدباء الكبار دورٌ في حياتها من أمثال: أحمد حسن الزيات وعباس محمود العقاد، فقد حافظت على أن يظل بيتها منتدًى ثقافيا لأعلام مصر من أدباء ومثقفين وفنانين ومفكرين.
أما كتبها التي ناهزت الخمسين عنوانا وأكثر؛ فقد كان منها الكتب الأدبية مثل: كتاب “قمم أدبية” وكتاب “شعب وشاعر.. أبو القاسم الشابي” وكتاب “أحمد رامي.. قصة شاعر وأغنية” وكتاب “شاعر الهوى والشباب.. الأخطل الصغير” وكتاب “أدب المازني” وكتاب “المرأة في شعر البحتري” وكتاب “الجمال والحرية والشخصية الإنسانية في أدب العقاد” وكتاب “الأدب والحضارة” وكتاب “النيل في الأدب الشعبي”.
ولها كتاب فني عن سيرة كوكب الشرق “أم كلثوم”. ولها أيضا موسوعة من عدة مجلدات عن عيون الكتب في علم الاجتماع، وفي التاريخ والفنون، وفي تراجم شرقية وغربية.
وعن الإسلام وحضارته كتبت عدة كتب مثل: “من عبقرية الإسلام” و”آفاق إسلامية” و”الإسلام في رأي الشرق والغرب” و”الإسلام وإنسان العصر”.
وعن مصر وحضارتها وتاريخها وواقعها السياسي كتبت: “في بلادي الجميلة – مصر في المعركة” وكتاب “أزمة الشباب وهموم مصرية” وكتاب “مصر تدخل عصر النفايات الذرية،” وكتاب “مشروع هضبة الأهرام” وكتاب “شخصية مصر” وكتاب “آفاق مصرية” وكتاب “صناعة الجهل” وكتاب “ماذا يُراد بمصر – قضية التعليم” وكتاب “أعلام في حياتنا” وكتاب “اللص والكلاب – محنة البنوك المصرية” وكتاب “بالحضارة لا بالسياسة.. قبل أن ينفد الصبر”.
هذا بالإضافة إلى كتاب “رحلة في الزمان والمكان بين مصر وأوروبا” وكتاب “أعيدوا كتابة التاريخ” و”كتاب التراث والحضارة” وكتاب “إسرائيل ماذا تقول الوقائع.. والكتب؟” ولقد منحتها منظمة اليونسكو عام 1962، جائزة أفضل كتاب في العام عن قضية الأمومة عن كتابها “رسائل إلى ابنتي” الذي ترجم إلى الإنجليزية.
وليس غريبا أن يتجاوز عدد ما امتلكته دكتورة “نعمات أحمد فؤاد” من كتب نحو الأربعين ألف كتاب، احتفظت بها جميعا في مكتبة ضخمة، بَنَتْهَا خصيصًا على قطعة أرض يمتلكها زوجها في طريق الهرم، وقد سجلت بواسطة مؤسسة الأغاخان الثقافية باعتبارها واحدة من المكتبات النادرة التي يمتلكها فرد.
لقد كانت مسيرة حياة د. نعمات التي عكفت فيها على مقاومة الجهل والفساد – رحلة مثمرة مع الكتاب والقلم والبحث العلمي، وحافلة بالنضال السياسي والفكري والثقافي. فقد خاضت بكل بسالة معارك شرسة من أجل الدفاع عن أرض مصر وتراثها مثل القضايا الخاصة بقبة الحسين، وبدفن النفايات الذرية في مصر، وبهضبة الأهرام التي رفضت من أجلها كرسي وزارة الثقافة، هذا بالإضافة إلى معارضتها لوزير الثقافة المصري آنذاك بشأن عرض الآثار المصرية في معارض بالخارج. وها هي مئات القطع الأثرية تخرج الآن، ومنذ بضع سنوات من متاحف مصر؛ كي تطوف بلدان أوروبا والمدن الأمريكية، فهل افتقدها أحدنا خلال تلك الرحلة؟!
رحلت د. نعمات الحياة بجسدها بعدما جاوزت الاثنين والتسعين عامًا في اليوم الأول من شهر أكتوبر عام 2016، وهو نفس الشهر الذي توفي فيه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين [ 1889-1973] رائد الأدب والتعليم والتنوير في مصر، وهو أيضا ابن مغاغة الواقعة على الضفة الغربية لنهر النيل، والتي كانت حاضرة في وجدان ابنتها وابنة مصر النجيبة، فلم تغب أرض مصر، ولم يغب نيلها ونيل القاهرة عن أبحاثها العلمية والأدبية أو عن كتبها.
وهكذا فقد استطاعت فتاة بسيطة مولودة في مغاغة؛ أن تشق طريقها العلمي في القاهرة، لأنها وجدت منذ طفولتها من يكتشف نبوغها العلمي، ومن يرعاها ويحسن توجيهها في كل من المدرسة والمنزل، في زمنٍ كان فيه المعلم قدوة وقيمة، وكانت المدرسة والجامعة محرابا للعلم والأدب والفن والثقافة والفكر، فنمت فيها القدرة على التعبير عن رأيها بحرية؛ اعتمادا على التفكير الحر بعد اطلاعٍ وبحث.
ولم يكن الزواج أو الأمومة عائقا أمامها يمنعها من مواصلة رحلتها المليئة بالصعوبات، وبالفعل استطاعت أن تترك لنا ميراثا من الكتب؛ ستخلد ذكراها لتظل باقية في الذاكرة المصرية على مر الزمن، وشاهدة على عصر أنجبت فيه مصر رجالا ونساءً صنعوا مجدها الفكري والأدبي والفني، الذي ما زلنا ننهل منه إلى الآن، فهل من الممكن أن ترعى أوطاننا أجيالا جديدة قادرة على إضافة صفحة أخرى للإبداع الإنساني في كافة المجالات؟! وهل سيظل هناك من يكملون نضال كل من انتموا لأوطانهم، بعدما أتقنوا لغتهم القومية وفقهوا تاريخ بلادهم ودرسوا حضارتها مثلما فعلت ابنة النيل التي شاركت البسطاء أحلامهم، وبحثت بدأبٍ عن سبيلٍ للتخلص من همومهم، فعاشت حياتها تقاوم الجهل والفساد وتطلب العلم وتسعى إلى نيل الحرية وإقامة العدل؟!