في خلال فترة زمنية تقارب ثمانية عشر شهرا، تحولت موريتانيا من “بلد شريك” لحلف الناتو، إلى “الشريك الوحيد” للحلف في منطقة الساحل الأفريقي. ففي منتصف يناير من العام الماضي، 2021، زار الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، مقر حلف شمال الأطلسي “ناتو” في العاصمة البلجيكية بروكسيل، وأجرى مباحثات مع الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، تركزت حول قضايا الأمن والدفاع في منطقة الساحل.
حينذاك، أعلن الحلف أن ولد الغزواني هو أول رئيس موريتاني يزور مقره، منذ استقلال موريتانيا عام 1960، مُشيرا إلى أن موريتانيا “بلد شريك” لحلف الناتو منذ عام 1995؛ في خطوة بدا أنها تمهد لمرحلة جديدة من التعاون والشراكة بين موريتانيا والناتو.
دوافع جيوسياسية
وخلال قمة الحلف في مدريد الإسبانية، والتي دُعيت إليها دولتان فقط من خارج أعضاء الحلف، هما: الأردن وموريتانيا، في نهاية يونيو الماضي، وصف الأمين العام المساعد المكلف بالشئون السياسية والسياسة الأمنية في الناتو خافيير كولومينا، موريتانيا بـ”الشريك الوحيد” للحلف في منطقة الساحل الأفريقي.
مثل هذا التغير في رؤية حلف الناتو إلى موريتانيا، يعود إلى عدد من الدوافع الجيوسياسية للحلف.. منها الاستقرار السياسي والأمني في موريتانيا؛ حيث يوضح كولومينا في مقابلة مع وكالة الأنباء الموريتانية، نُشرت في 2 يوليو الماضي، أن نواكشوط لها دور كبير وضروري في منطقة الساحل، لسببين: أولهما، أنها “الشريك الوحيد” للحلف في الساحل الأفريقي، وهي “الوحيدة التي يمكنها النفاذ إلى بعض أدواتنا بطريقة منهجية لأنها شريك”.
أما السبب الآخر – بحسب كولومينا- فهو أن “موريتانيا الدولة الوحيدة في منطقة الساحل التي تسيطر على أراضيها وحدودها، وهي دولة تتمتع باستقرار سياسي وأمني” مؤكدا أن “التعاون معها أفضل في نظر الحلف”.
من الدوافع أيضا أهمية موريتانيا في منطقة الساحل الأفريقي؛ إذ يبدو أن العلاقة بين موريتانيا وحلف الناتو، الذي يضم 30 دولة، بينها قوى عظمى، وصلت إلى درجة وصفها بـ”الشريك الوحيد” في الساحل الأفريقي؛ بل وترقى في نظر الحلف إلى تصنيفها حليفا استراتيجيا، نظرا لما تلعبه من دور محوري في منطقة الساحل، إضافة إلى دورها القيادي في مجموعة الدول الخمس في الساحل “غربي القارة” (موريتانيا، بوركينا فاسو، تشاد، مالي، النيجر) ونجاح مقاربتها ضد انتشار الجماعات المسلحة، وسيطرتها على كامل أراضيها، في ظل سياق أمني معقد تمر به المنطقة.
من الدوافع كذلك، فاعلية موريتانيا بحكم موقعها الجغرافي؛ فإضافة إلى كونها العضو الفاعل في دول الساحل الخمس، حيث تحتضن مقر المجموعة التي تحارب الإرهاب في المنطقة؛ فإن موريتانيا تُمثل همزة الوصل بين أفريقيا وأوروبا. وبحكم التداخل بين جزر الكناري وموريتانيا، باعتبارها الجار الأفريقي الأقرب إلى الحدود الإسبانية، بعد المغرب والجزائر؛ حاولت إسبانيا اللعب بورقة تقريب موريتانيا لدول حلف الناتو، وتعزيز مكانة الأمن الإسباني، ولكن وفق المظلة الأوروبية أو مظلة الحلف.
وبحكم موقعها الجغرافي، يتطلع الناتو أن تلعب موريتانيا دورا مهما، حيث تشترك في حدود شاسعة مع مالي، التي بدأت مؤخرا في التقارب مع روسيا، المنافس الأول للناتو؛ وهو ما يُبرر زيادة التقارب بين موريتانيا والحلف الساعي إلى التصدي للتمدد الروسي، الذي بدأ في المنطقة، على حساب فرنسا الحليف التقليدي هناك.
صراعات النفوذ
في هذا الإطار، يبدو من الواضح أن المساعدات التي أعلن الناتو، في قمته الأخيرة، عن تقديمها لموريتانيا، تدخل في إطار خطة الحلف إلى نهاية العقد الحالي (2030)، المعروفة بـ”المفهوم الاستراتيجي الجديد” الذي يؤكد على أهمية منطقة الساحل الأفريقي من حيث كونها إحدى مناطق الصراع المستقبلي على النفوذ بين القوى الدولية الكبرى.
ولعل ذلك ما يبدو بوضوح عبر أكثر من جانب..
من جانب، هناك الصراع الروسي الغربي في الساحل الأفريقي؛ حيث يُلقي الصراع المحتدم بين روسيا والغرب، الذي فجرته الحرب الروسية الأوكرانية، بظلاله على منطقة الساحل الأفريقي؛ خصوصا أن التمدد الروسي قد وصل إلى مالي، التي اختار قادتها العسكريون التقارب مع روسيا، مُعرضين عن اتفاقيات عسكرية جمعت لعقود باماكو مع الحليف التقليدي فرنسا.
واللافت أن الوجود الروسي في مالي، فضلا عن المساعدات العسكرية، قد أثار مخاوف الناتو والدول الأوروبية، ما جعل الحلف يُعزز ما أسماه “الجناح الجنوبي للحلف”؛ خاصة أن روسيا تحاول كسب المزيد من النفوذ، من خلال مجموعة “فاغنر” حيث دُعيت المجموعة من قِبل حكومة مالي لتوفير الأمن ضد الجماعات الإسلامية المتشددة.
ولعل ذلك يُمثل أحد الدوافع الرئيسة في دعوة موريتانيا لحضور قمة الناتو، بما يعني تأسيس الحلف لمفهوم استراتيجي جديد، تكون موريتانيا من خلاله شريكا في الحد من النفوذ الروسي في منطقة الساحل الأفريقي؛ رغم أنه لم يتم الإعلان عنه بعد.
من جانب آخر، هناك التزايد في النفوذ الاقتصادي والعسكري الصيني أفريقيا؛ إذ يشكل النفوذ الصيني المتزايد، لاسيما في المجال الاقتصادي مصدرا لإزعاج دول الناتو، وهو ما يعكس توجه الحلف لتركيز الاهتمام على منطقة الساحل، حيث أوضح الأمين العام للحلف – بعد انتهاء القمة- أن الدول الأعضاء تطرقت إلى مسألة سعي روسيا والصين إلى تحقيق نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري، في جنوب نطاق أراضي دول الناتو.
وكان أحد البنود التي نوقشت خلال القمة، ذلك الذي يتعلق بالنفوذ العسكري الصيني المتزايد داخل المحيط الهادي وخارجه، بعد أن حذر الجنرال الأمريكي ستيفن جيه تاونسند، قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا – دول الناتو من نية الصين بناء قاعدة عسكرية بحرية في أفريقيا على ساحل المحيط الأطلسي؛ قائلا “إن لدى بكين أكبر قدر من الجاذبية نحو إقامة قاعدة في غينيا الاستوائية الغنية بالنفط” بحسب ما ذكر موقع “الميادين” في تقرير له، في 4 يوليو الماضي.. وهو احتمال يجعل الصين – في حال تحققه – تقف على ناصيتي غرب أفريقيا، وشرقها عبر القاعدة العسكرية لها في جيبوتي.
من جانب أخير، هناك وجود الحركات الإسلامية المتشددة في منطقة الساحل؛ فإسبانيا تأتي في مقدمة دول الناتو، التي طالبت الحلف بضرورة مواجهة الفوضى ووجود الحركات الإسلامية، التي تنتهج العنف، في منطقة الساحل. وينطلق المبرر الإسباني من أن “الجماعات الإرهابية يمكن أن تستغل حالة عدم الاستقرار في المنطقة، خاصة في مالي بعد انسحاب القوات الفرنسية”؛ الأمر الذي يؤثر على الحدود الأوروبية المتمثلة في إسبانيا، البوابة الأوروبية الأولى لحف الناتو، في اتجاه الجنوب الأفريقي.
مصالح اقتصادية
في هذا السياق، يبدو أن العلاقات القوية بين موريتانيا وحلف الناتو، والتطور المتسارع لها خلال العقد الأخير، يطرح التساؤلات حول ما إذا كانت موريتانيا يمكن أن تتحول إلى بوابة للحلف إلى منطقة الساحل الأفريقي، من خلال دعم الناتو لقدراتها العسكرية؛ في محاولة من الحلف للحد من التمدد الروسي، والصيني، في منطقة الساحل الأفريقي.
والملاحظ، أن هذا الدعم المتزايد من الناتو، يأتي في وقت تقترب فيه موريتانيا من أن تكون جاهزة لأداء دور فعال في تخفيف وطأة أزمة الغاز الحالية في أوروبا؛ بعد الإعلان عن انتهاء التحضيرات لتشغيل مشروع “تورتو أحميم” للغاز، الذي يمتد على جانبي موريتانيا والسنغال، والذي من المقرر أن يبدأ إنتاجه بحلول العام القادم 2023.
وبحسب تصريحات وزير النفط الموريتاني، عبد السلام ولد صالح، أمام منتدى الطاقة الأفريقي في بروكسيل، الذي انعقد خلال الفترة 21 – 23 يونيو الماضي، فإن ابتعاد أوروبا عن الغاز الروسي يوفر سوقا جاهزة ومربحة لمشروع ضخم يجري تطويره في غربي أفريقيا، سيكون “قادرا على إنتاج 2.5 مليون طن سنويا، وهو ما سيضع موريتانيا والسنغال في قائمة الدول المنتجة للغاز الطبيعي”.